بَحثَ الفلاسفةُ الإغريقُ في الماضي عن السَّلامِ والغِبطَةِ وَالهُدوءِ والرَّاحةِ، وكَانوا يَنتَظِرُون مَن يُقدِّمُ فِكرةً جديدة ما ليَستَمِعُوا إليه، فَكانُوا يَقولون لَه تَفضَّلْ إلى الوَسَطِ وأسمِعْنا. وهَذا ما حَصلَ معَ بُولُسَ الرَّسولِ في أريوس باغوس في ​أثينا​، عندما وقفَ في الوَسطِ وَبشَّرَهُم بِالإلهِ الأوحَدِ الرَّب يسوعَ المَسيح(أعمال ١٧).

كان الوُقوفُ "في الوَسط" أمرًا مُهِمًّا جِدًّا، ويُشَكِّلُ مَحطَّةً أساسيَّةً، فنَقرأُ في أعمَالِ الرُّسل: "أَمَّا الأَثِينِوِيُّونَ أَجْمَعُونَ وَالْغُرَبَاءُ الْمُسْتَوْطِنُونَ، فَلاَ يَتَفَرَّغُونَ لِشَيْءٍ آخَرَ، إِلاَّ لأَنْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَسْمَعُوا شَيْئًا حَديثًا"(أعمال ٢١:١٧).

الهاجِسُ المُسَيطِرُ كانَ "الشَّيء الجَديد"، لأنّه كان يُظَنُّ أنّه قد يُعطي الجَوابَ الشَّافي عن رَاحَةِ النَّفسِ والسُّكنى في الغِبطَة، لِذَلكَ فَإنَّ عِبارَةَ "في الوَسَط" ἐς μέσον، في ​اللغة​ِ اليُونَانيّة، أَخذَتْ حَيِّزًا مُهِمًّا لِمَا كانت تَعنِيهِ مِن مُرتَجًى، أي "أَعطِنَا الشَّيءَ الجَديد".

كانَ الفَلاسِفَةُ يُطلِقُونَ على الرَّاحَةِ المَنشُودَةِ كَلِمَةَ Ataraxie Aταραξία لِبُلُوغِ الـEudaimonia εὐδαιμονία، أي "الفَرحِ والازدِهَار"، وقد أَتَتْ كَلمَتَا "نِعمَة وبَرَكة" Bénédiction الأَدَقَّ تَرجَمَةً لكلمة εὐδαιμονία التي تعني "روح حسنة وجيّدة وفرحة" إذ كلمة "δαίμων/demon" وحدها قد تعني شيطان أي روح خبيث وسيّء.

ظَهر هذا السَّعيُ بِقُوّةٍ معَ الفَيلسوفِ الإغرِيقيّ Pyrrhо̄n Πύρρων 360 - 270 BC

إنّ هدفَ البحثِ هذا هُو عَكسُ الاضطراب. وقَد تَكُونُ كَلمَةُ "أريد أن أرتاح" الأَكثرَ استعمَالًا عَلى مَرِّ العُصُور. وتُشيرُ الإحصاءاتُ في أيّامِنا هَذِه إلى أنَّ البَحثَ عن وَسائلِ الرَّاحةِ النَّفسيَّةِ مِن موسيقى وغَيرِها، يَأتي في المَرتَبَةِ الأُولى على مَواقِع ​الإنترنت​ واليوتيوب.

وهُنا بَيتُ القَصيد، نَحن المَسيحيّين نقول إنّه لا راحةَ ولا فرح ولا غبطة ولا سلام ولا طمأنينة خارجَ المَسيح. وقَد بَشَّرَنا يسوعُ بِالمُعَزِّي، الرُّوحِ القُدُس. وأردفَ قائِلًا: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ"(يوحنا ٢٧:١٤). فَمِن ثمر الروح ​القدس​ "مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ"(غلاطية ٢٢:٥).

كلُّ النَّزاعاتِ بَحثَتْ عن هذا السَّلام، الأبيقوريّة Épicurisme والرواقيّة Stoïcisme وغيرها، ولم تَبلُغ مرتجاها. ولا ننسى أفلاطون وسقراط... بالمقابل نَجِدُ مثلًا أنّ القدّيسَ يوستينوس الفيلسوف (١٠٠-١٦٠م) قال للإمبراطور الفَيلسوفِ Marcus Aurelius (١٢١-١٨٠م): "تُريدُ الجَمالَ الكامِلَ والحقيقةَ الكاملةَ، اقترب إلى المَسيح"، كذلك القدّيس أثناسيوس الكبير (+٣٧٣م) في رسالتِه إلى الوثنيّين يَشرَحُ قائلًا: "لا تُضَيِّعُوا الوقتَ في التَّخيُّلات، فَالتَّجسُّدُ هُوَ الجَواب"، ويَقصِدُ بِذَلِكَ أنَّ اللهَ تجَسَّدَ وصارَ إنسانًا مِن أجلِنا ليُخَلِّصَنا، وهُوَ مُشتهى كُلِّ الأمم.

في العنصَرَةِ أَرسلَ لنا الرَّبُّ يسوعُ الرّوحَ القُدُسَ مُؤسِّسًا الكَنيسة. وكلمةُ ​كنيسة​ "إكليزيّا" تأتي مِنَ الكَلمةِ اليونانيّة εκκλησία التي تتضَمَّنُ فِعلَ καλώ أيّ "أوجِّه دعوةً"، ليُصبحَ المعنى الكاملُ "أَخرُج (إلى الخارج) وأدعو"، أي أدعوهم إلى الخلاص.

في اللغة العاميّةِ كانت كلمةُ "إكليزيّا" تُشيرُ إلى مَجمَعِ المُواطِنينَ اليُونانيّين المَدعُوّين للتَّشريعِ أو التَّصويتِ وما شابَهَ ذلك. ومع ​المسيح​ِ أصبَحتِ الشُّعوبُ مَدعُوّةً إلى مَلكوتِ الله.

وتَرِدُ الكلمةُ بِوُضوحٍ في أعمالِ الرُّسل: "وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْجَلِيلِ وَالسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ، وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ الرَّبِّ، وَبِتَعْزِيَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ" (أعمال ٣١:٩).

وهذه الكلمةُ نفسُها التي استعمَلَها يسوعُ عنِ الكَنيسة: "أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا" (متى ١٨:١٦)، والصَّخرةُ هي الربُّ يسوعُ المسيحُ نفسُه.

بعد القيامَةِ "وَقَفَ (يسوع) فِي الْوَسْطِ (وسط التلاميذ)، وَقَالَ لَهُمْ: «سَلاَمٌ لَكُم»" (يوحنا ١٩:٢٠). نلاحظ هنا أنَّ يسوعَ في وسَطِ تَلاميذِه μέσον τὸ εἰς.

لقد امتلأ هذا الوَسَطُ ولم يَعُدْ شاغِرًا، هو في وسَطِنَا، ولا حاجةَ مِن بعدِه لأيّ بَحثٍ عن أيِّ حقيقةٍ أُخرى أو أيِّ شيءٍ آخرَ جديدٍ، لأنّه هو الحقيقةُ الكامِلَةُ، لا بل هو "الحَقُّ والحَياة" (يوحنا ٦:١٤).

وها قد انتقلنا مِن مرحلة ἐς μέσον إلى καλώ εκ وبات مِن واجب كلّ معمَّدٍ أن يخرجَ إلى ​العالم​ وينادي بالخلاص مبشِّرًا بالمسيح وداعيًا الناس إلى الكنيسة بعد أن امتلأ هو مِن الربّ، لأنّ فاقدَ الشيء لا يعطيه.

وهنا تأخذ كلمة "قدّيس/قدوش" معناها الكامل. هو الذي أفرز نفسه، أفرغ ذاته، عاش ​الإنجيل​ وامتلأ مِن الروح القدس بالكامل.

وفي النهاية يصف القدّيس باسيليوس الكبير (٣٣٠ -٣٧٩م) ​مسيرة​ قداستنا فيقول: "إنّ الرسّام يضع أمامه نموذجًا يتبعه، فينظر إليه بشكل متواصل ليتأكّد مِن صحّة رسمته، فيتكوّن لديه نموذجًا جديدًا. كذلك المسيحيّ، يضع المسيح نُصْبَ عينيه، وينظر إليه دائمًا ليتأكّد مِن أنّ حياته تتطابق مع المسيح ليصبح بالتالي مسيحًا على صورة مخلّصه، حينئذٍ يرتاح هو في المسيح والمسيح يسكن فيه.