منذ انطلاقة حكومة حسّان دياب، واجهت المعارضة المفترضة لها تحدّياتٍ وعوائق بالجملة، تصدّرها عجزها عن تشكيل جبهة موحّدة، أو متماسكة بالحدّ الأدنى، ربطاً بغياب الانسجام، وربما الكيمياء، بين مكوّناتها الأساسيّة، ما انعكس "شللاً" في حركتها إلى حدّ بعيد، استغلّتها ​السلطة​ إلى الحدّ الأقصى.

ومع أنّ "التباين" في مقاربة هذه القوى للاستحقاقات المفصليّة كان "فاقعاً"، لدرجة "تطبيع" بعضها مع الحكومة في مقابل سعي بعضها الآخر إلى "الإطاحة" بها بأيّ وسيلة، فإنّ هذه القوى سعت لـ "تلطيف" الصورة، عبر الإيحاء بأنّ قوة المعارضة في تنوّعها، وأنّ "ذوبانها" في جسمٍ واحدٍ لن يكون مجدياً.

وإذا كانت هذه المحاولات نجحت في مكانٍ ما في صرف الأنظار عن فكرة "توحيد" المعارضة، فإنّها تعرّضت لـ "ضربةٍ" في الصميم الأسبوع الماضي، مع الهجوم اللاذع الذي شنّه رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، على حليفه القديم رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، ما "فضح" حقيقة الخلاف الموجود بين الجانبين.

وفي وقتٍ لفت الأنظار "الصمت المعبّر" الذي لاذ به جعجع، رداً على "الشيخ سعد"، طُرحت علامات استفهام بالجملة عمّا إذا كان "الوسطاء" نجحوا في "احتواء" الخلاف المتجدّد بين الرجلين، وبالتالي في "إطفاء" لهيبه سريعاً، أم أنّ تداعياته ستبقى ماثلة إلى أمدٍ قد لا يكون قريباً...

انتهى في أرضه؟!

تماماً كما انتشرت عبارة "بونجور حكيم" التي استهلّ بها الحريري هجومه العلنيّ غير المسبوق على جعجع، كالنار في الهشيم، وبسرعةٍ قياسيّة، فإنّ الموضوع غاب، أو ربما غُيّب، عن التداول بسرعةٍ قياسيّة أيضاً، ما دفع كثيرين إلى اعتبار أنّ السجال "الافتراضيّ" انتهى في أرضه، ولم يتوسّع كما ذهبت تقديرات الكثيرين.

كثيرةٌ هي الأسباب التي أدّت إلى هذه "الخاتمة"للسجال، وأولها اكتفاء الجانبيْن بما أدليا به، فرئيس حزب "القوات اللبنانية" لم يردّ على "تحيّة" الحريري، بل "تجاهلها" في ​الفضاء​ الافتراضيّ، وهو "تعمّد" التغريد عن مواضيع أخرى لإيصال رسالةٍ إلى كلّ من يهمّه الأمر، لعدم "تحميل" الأمر أكثر ممّا يحتمل، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّه يحتمل الكثير، خصوصاً أنّ "الحكيم" دأب على نفي وجود أيّ "خلافٍ" مع الحريري، وهو ما بدا واضحاً أنّه منافٍ للحقيقة.

وإذا كان "القواتيون" اعتبروا ما حصل نتيجة "سوء تفاهم"، فجّره الحديث الصحافي الذي أدلى به "الحكيم" وتناول فيه العلاقة مع الحريري، ليصل المضمون "محرَّفاً" إلى الأخير، أو بالحدّ الأدنى بغير المقصد الأصليّ، فإنّ ما أسهم في "الحدّ" من التداعيات السلبيّة المتوقّعة تمثّل في قرار قيادة "القوات" بعدم الانجرار إلى الردّ على "الحليف" القديم، بخلاف ما يحصل عادةً حين يتناوب النواب والقياديّون لاستعراض قدراتهم الخطابية في الردّ، باستخدام كلّ فنونه.

ولا يبدو واقع الحال مختلفاً على ضفّة "​المستقبل​"، حيث اكتفى الحريري أيضاً بما صدر عنه، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّه ليس بحاجة أصلاً إلى أيّ إضافات، نظراً لقوته "اللاذعة"، ودلالاته التي لا تخفى على أحد، علماً أنّ لجوء بعض النواب إلى "المزايدة" على الحريري، في الهجوم على "القوات"، بدا "متسرّعاً"، وسرعان ما تمّ ضبطه، بدليل حذف النائب ​سامي فتفت​ على سبيل المثال تغريدة كان نشرها، بعد دقائق على موقف الحريري، ولو أنّ تغريدته كانت قد انتشرت في المنصّات الافتراضيّة.

الأولويات مختلفة!

في الظاهر، يمكن القول إنّ "القواتيّين" و"المستقبليّين" نجحوا في "احتواء" الخلاف بين الحريري وجعجع إلى حدّ بعيد، لتعود العلاقة بين الجانبين لتُبحَث حيث يجب، أي في الكواليس والقاعات المُغلقة، بدل أن يتمّ "نشر الغسيل"، إن جاز التعبير، في العَلَن.

لكنّ ذلك لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال أنّ الخلاف انتهى، أو حتى وُضِع جانباً، وذلك لسببٍ أساسيّ هو أنّ "الجرح" بات "عميقاً"، بدليل أنّ الحريري ما كان ليدلي بما أدلى به لو لم يشعر بـ"الاستفزاز" من كلام جعجع، الذي حاول تصوير نفسه وكأنّه يدرك مصلحته أكثر منه، ولذلك لم يُعِد تسميته ل​رئاسة الحكومة​، علماً أنّ هناك من لاحظ "مفارقة" أنّ قوة هجوم الحريري على جعجع لم تُرصَد في "حملاته" على خصومه الحقيقيّين، ولا سيما منهم "​التيار الوطني الحر​" و"​حزب الله​".

ومع أنّ كلام جعجع الذي "استفزّ" الحريري لم يكن الأول من نوعه، وفق ما يقول كثيرون، فإنّ موقف الحريري يجد الكثير من "المبرّرات" الموضوعيّة وفقاً للبعض، وذلك نتيجة تراكم ما يصفونها بـ "الطعنات" التي تلقّاها من "الحكيم"، منذ استقالته الشهيرة من العاصمة ​السعودية​، مروراً بـ"الشعبوية" التي طبعت ​سياسة​ جعجع على حسابه، وصولاً إلى تصويته ضدّ ​الموازنة​ في الحكومة التي كان مشاركاً فيها، قبل أن يسبق الحريري بالاستقالة الفرديّة منها، على وقع الحراك الشعبيّ، في مسعى لحصد أكبر قدر من المكاسب الشعبية الممكنة.

ويصل اختلاف المقاربة بين الجانبين إلى حدّ تحميل كلّ طرفٍ للآخر مسؤولية وصول الأمور إلى الدرك الذي وصلت إليه، بين اعتبار "المستقبليّين" أنّ جعجع هو الذي "فرض" على الحريري خيار تبنّي ترشيح العماد ​ميشال عون​ ل​رئاسة الجمهورية​، بعدما أبرم تفاهماً معه بدا رداً مباشراً على تسمية "الشيخ سعد" لرئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ للمنصب، واعتبار "القواتيين" في المقابل أنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في وصول عون إلى الرئاسة، بقدر ما هي في "مبالغة" الحريري في التعامل مع الموضوع، وتحوّله على مدى ثلاث سنوات إلى "أسيرٍ" للتسوية التي أعادته لرئاسة الحكومة، وهو ما يدفع اليوم، ومعه كلّ اللبنانيين، ثمنه.

إن دلّ كلّ ذلك على شيء، فعلى أنّ "احتواء" الخلاف بين الرجلين الأسبوع الماضي لا يؤشر سوى إلى "تقاطع مصالح"، في أحسن الحالات، باعتبار أنّ أولويات المرحلة مختلفة، وأنّ "الالتهاء" بمثل هذا السجال لن يفيد أصحابه بشيء، خصوصاً أنّ كلّ التحليلات والتسريبات أكّدت أنّ رئيس الحكومة حسّان دياب، والوزير ​جبران باسيل​، كانا على الأرجح أكثر "الضاحكين في سرّهم"، وهم يطّلعون علىتغريدة الحريري النارية، والتي نزلت عليهما بلا شكّ برداً وسلاماً، وربما أكثر من ذلك.

دليل "إدانة"؟!

قد لا تكون المرّة الأولى التي يُفجَّر فيها الخلاف بين الحريري وجعجع اللذين بدأ "طلاقهما" الفعليّ منذ تكريس "​التسوية الرئاسية​"، من دون أن يؤدي إنهاء العمل بها إلى إعادة ​المياه​ إلى مجاريها بينهما، أو بالحدّ الأدنى إلى "ترميم" العلاقة بشكلٍ أو بآخر.

مع ذلك، فإنّ وصول الخلاف إلى المستوى "المباشر" الذي فجّرته تغريدة الحريري بدا مفاجئاً لكثيرين، حتى من العارفين بالخلاف وجذوره وأدبياته، ما ترك تداعيات سلبية جداً، خصوصاً في صفوف جماهير الطرفين، ولو تمّ الحدّ منها في العلن.

وإذا كان واقع الحريري وجعجع اليوم من عوامل "التأزيم" في العلاقة، باعتبار أنّ كلاً منهما يطمح إلى كسب ودّ المواطنين الناقمين على السياسيين، ويسعى إلى "قيادة" المعارضة في وجه الحكومة الحاليّة ومن تمثّل، فإنّ ثمّة من يرى في السجال بينهما دليل "إدانة" لرجليْن، يجدان الوقت لتصفية حساباتهما، فيما البلاد على شفير الإفلاس والانهيار، والناس تبحث عن لقمة عيشها، ولا شيء سواها...