تنظر ​أميركا​ إلى ​لبنان​ باعتباره الحلقة الأضعف في محور المقاومة، ونظرتها هذه ليست من باب القدرات القتالية للمقاومة وهي قدرات حققت الكثير مما أزعج أميركا وأقلقها، بل من باب البنية اللبنانية والوهن البنوي في تركيبته السياسية والديمغرافية وال​اقتصاد​ية وقدرتها أي قدرة أميركا على تجنيد من يلزم فيه لتنفيذ المهام التي تخدم سياستها لا بل تمارس عبره عدوانها المستمر على المنطقة.

ففي لبنان تجد أميركا سياسيين يجاهرون بمواقفهم التي تصب في خدمة المصالح الأميركية على حساب المصالح اللبنانية، وتجد موظفون كبار يمارسون مهام وظائفهم بمنظور وفهم أميركي بحت حتى وبأفضل مما تقوم به أميركا نفسها، وتجد أحزاب وهيئات وتنظيمات تعمل في خدمة هذا المشروع الأميركي الاستعماري بجدية والتزام وحرص على النجاح يفوق ما تطلب او تتمنى ​الإدارة الأميركية​.

و الأدهى من كل ذلك نجد ان أميركا التي تتلقى السهام الجارحة في داخلها لا بل تثخن بالجراح اليوم من باب جائحة ​الكورونا​ و الاضطرابات الشعبية التي اندلعت تحت عنوان رفض "التمييز العنصري " في الداخل الأميركي ، أميركا التي أخفقت في سياساتها تجاه ​الصين​ و ​روسيا​ ، و اضطرت للتعامل بواقعية بعيدة عن التهديد العسكري الجدي مع كل من ​ايران​ و ​كوريا الشمالية​ ، أميركا التي تأكلت هيبتها العسكرية و ضاع حلمها بالأحادية القطبية في النظام العالمي المنهار أميركا التي لا يتوقع عاقل أنها ستعود و سترمم هذه الأحادية مهما كانت نتائج المواجهة العالمية القائمة حاليا ، الأدهى في الأمر ان أميركا هذه تجد في لبنان من يتعبد لها و ياسر نفسه في حبائل مشاريعها الكيدية و الاستعمارية و العدوانية و يرى فيها الملاذ و الملجأ و الحصن الذي يلجا اليه لمعاقبة شركائه في الوطن بعد ان يجند نفسه عندها مخبرا محرضا او جاسوسا عميلا او ماجورا في خدمتها .

لقد شكلت أميركا ممن يتبعها او ينصاع لها او يأتمر بأوامرها ما يمكن وصفه ب "جبهة أميركا في لبنان " التي يتوزع أعضاؤها الأدوار ويتساندون فيما بينهم بحيث يحمي بعضهم بعضا في أي موقع كان لان تلك المواقع التي يشغلها من يحمل ​الهوية اللبنانية​ تستفيد منها او تخدم ال​سياسة​ الأميركية فيكون واجب عليهم حمايتها. لأنهم يرون فيها محميات يمنع المس بها ويسلط السيف الأميركي على رقبة كل من يفكر بهذا الأمر. وعليه نرى ان مهام أعضاء "جبهة أميركا في لبنان " نوعان الأول المهام الأصلية المباشرة التي تخدم تلك ​السياسة​ والثانية مهام احتياطية فرعية تمارس من اجل حماية الأعضاء بعضهم لبعض في مواقع ​الدولة​. وفي ممارسة مهامهم الأصلية يطالب أعضاء “جبهة أميركا في لبنان " بما يلي:

1) نزع ​سلاح المقاومة​ الذي هو مصدر قوة رئيسي للبنان للدفاع عنه أرضا وشعبا وثروة وكيان وهو مصدر قلق عميق ل​إسرائيل​ وأميركا يهدد مطامعهما خاصة في الأرض والثروة، وان نزعه يسهل لأميركا وضع يدها على كامل المفاصل اللبنانية ويمكنها من تعديل الحدود ورسم حدود بحرية وإنهاء ملف ​مزارع شبعا​ خدمة لإسرائيل كما جاء في رؤية ​ترامب​.

2) الابتعاد عن سورية من اجل أحكام الإحصار عليها خدمة لسياسة ​العقوبات الأميركية​ التي تسعر اليوم مع بدء تطبيق قانون قيصر الأميركي الكيدي الإجرامي. يريدون سد الرئة اللبنانية التي تتنفس منها سورية يريدون ذلك رغم ان علاقة لبنان بسورية هي من طبيعة تجعلها مسالة حياة او موت للبنان هذا قبل ان ينص عليها في وثيقة الاتفاق الوطني في ​الطائف​ بانها علاقات مميزة وقبل ان تصاغ تلك العلاقات في 22 اتفاقية متنوعة المواضع لتفعليها.

3) رفض إقامة أي علاقة اقتصادية مع العمق المشرقي للبنان من سورية إلى الصين مرورا ب​إيران​ وروسيا، ويصرون على تضييع الفرص عن لبنان من اجل ان يبقى تحت الاستعمار ​الاقتصاد​ي الأميركي الذي فرض عليه نهجا اقتصاديا حول اقتصاده إلى اقتصاد ريعي وحرمه من الخدمات الأساسية ومنعه من إقامة بنية تحتية تناسب تطور العصر وأغرقه بالديون كل ذلك خدمة لاستراتيجية أميركية تقوم في جوهرها على إفقار التابع المستعمر من اجل إبقائه تحت السيطرة على أساس "جوعه يتبعك".

لقد نجحت "جبهة أميركا في لبنان " في ​تحقيق​ ما طلب ويطلب منها في مسال العلاقة مع سورية و المسالة الاقتصادية و فشلت في مسالة سلاح المقاومة ، و سبب فشلها هنا عائد إلى ان للسلاح قوة تمسكه و تحميه لا تخضع للدولة بشكل كلي بل تنسق معها ضمن مفهوم "التنسيق السلبي" الذي تفرضه الرغبة في عدم التصادم والاحتكاك ، دون ان يصل هذا التنسيق إلى حد الخضوع التام للقرار الرسمي اللبناني ، الخضوع الذي لو حصل لتعطل دور ​السلاح​ ولكان لبنان اليوم من غير مقاومة و من غير سلاح مقاوم ، و بالمناسبة نذكر بان احد الأسباب الجوهرية التي تحول دون وضع سلاح المقاومة بأمرة الدولة هو هذا الخطر، حيث انه وضعه بيدها يعني حتما تعطيل استعماله لأنه يجعل قرار الاستعمال بيد جهة رسمية يكون فيها بعض من "جبهة أميركا في لبنان " وان حصول ذلك يعني زوال معادلة الردع الاستراتيجي التي فرضتها المقاومة على إسرائيل و بها حمت لبنان و منعت الحرب عليه .

لقد نجحت "جبهة أميركا في لبنان " في تحقيق أغراض أميركا من مسائل العلاقة مع سورية والمسالة الاقتصادية لان هذا الأمر يتطلب قرارا رسميا ويتوزع من بيدهم سلطة القرار او صلاحيته بين فئات أربع: الأول خاضع مباشر للقرار الأميركي بوصفه عضوا في "جبهة أميركا في لبنان " والثاني خائف على مصالحه من ردة الفعل الأميركي عليه ان خالف الإيحاء الأميركي ثم يغلف خوفه على مصالحه الشخصية بالادعاء بانه خائف على المصالح الوطنية اللبنانية، والثالث عاجز بمفرده لا يملك صلاحية اتخاذ القرار المناسب وحده. ورابع غير مكترث للصراع بذاته او لنتائجه قادر على التكيف مع تلك النتائج كيفما كانت. وفي هذا التصنيف يكمن مازق لبنان، المأزق الذي يضيق فسحة الأمل بالتحرر من الاستعمار الأميركي الفعلي المفروض عليه والذي يصل أحيانا إلى حد ظهور سفير أميركا في لبنان وكأنه الحاكم الفعلي فيه.

بيد ان الغريب في الشأن هو فجور "جبهة أميركا في لبنان " في توصيفها لواقع لبنان حيث تقلب هذه الحقيقة و تدعي وجود عكسها في ابشع عملية تزوير و تقليب للحقائق ،فبدل الإقرار بهذا الاستعمار تطلق مقولة "الدويلة التي تحكم الدولة" ،و تقصد دويلة ​حزب الله​ التي هي وهم في رؤوس أعضاء "جبهة أميركا في لبنان " ، يصرحون به ليخفوا حقيقة الاستعمار الأميركي الذي هم في خدمته ، و يطلقون مقولة "​حكومة​ حزب الله" التي لو كانت حقيقة قائمة لذهبت إلى سورية بكل ثقة بالنفس و لفتحت الطريق للبنان للانتظام في الاقتصاد المشرقي و كسرت الاحتكار الأميركي لسوقه .أما الدرجة الأعلى من الفجور فتتمثل في مطالبة أميركا و جبهتها في لبنان بالإصلاح و تضع الإصلاحات شرطا للمساعدات . وطبعا لا يمكن لعاقل ألا وان يؤيد هذا الشرط لا بل يجعله هدفا رئيسيا من أهداف سياسته، بيد ان سلوك أميركا واتباعها يخالف الطلب اللفظي حيث ان النسبة الكبرى من ​منظومة​ ​الفساد​ في للبنان وناهبي ​المال​ العام هم أعضاء في "جبهة أميركا في لبنان " وتمنع أميركا المس بهم وتضع الخطوط الحمر التي تحميهم ويتطوع أعضاء الجبهة كل في موقعه من اجل حمايتهم.

هذا هو مشهد لبنان ومأساته، ومجريات الصراع فيه، صراع شرس بين من يريد ان يستكمل استعماره وإحكام السيطرة عليه بنزع سلاح المقاومة، ومن يريد ان يستكمل التحرير الذي بدا في العام 2000 بتحرير ​الجنوب​ وتصاعد في إرساء منظومة الردع الاستراتيجي بوجه العدو، ويعمل لتحرير لبنان اقتصاديا من الاستعمار الأميركي وليطهره من الفساد الداخلي الذي يرعاه هذا الاستعمار.

صراع ليس بالأمر السهل خاصة وانه دخل اليوم إلى لقمة عيش المواطن التي أقحمتها أميركا في الصراع من باب الحصار والعقوبات وقانون قيصر والتلاعب بالنقد الوطني، لكن رغم ذلك ليس الفوز فيه مستحيلا بالنسبة للمقاومة خاصة وان الطرف المناهض لها عاجز كليا مهما حشد من طاقات ومهما ابتدع من أساليب عاجز عن نزع سلاحها، يبقى عليها هي ان تعمل بالمتاح والمتوفر من اجل خوص معركة التحرير الاقتصادي والإصلاح في اهم حرب يواجهها لبنان الحديث وهنا يبرز دور الشعب الذي عليه تقع الأعباء التي لا يستهان بها.