أقبَلَت جائحةُ ​كورونا​ ومَعَها أصداءُ موتٍ وجَزَعٍ وعَجزٍ عِلمِيّ عن اكتِشاف دَواء يُواجِه هذا الوباء العالَمي، فَبِتنا نَقِفُ أمام جُملَةِ تَساؤلاتٍ عَن مفاهيمَ وُجودِيَّةٍ لَطالَما تبادَرَت إلى ذهن ​الإنسان​، حَول معنى ​الحياة​ وسبب الوجود وماهِيَّة الموت وما وراءَهُ...

حَبَستنا كورونا في منازِلِنا، حابِسَةً مَعَنا أفكارَنا وتساؤلاتِنا. فَرَّقتنا اجتِماعِيَّا، وفَرَضَت علينا حَجرًا صحّيًّا، فاغتَنَم قُدس الأباتي أنطوان راجح الفُرصَة مُحَوّلًا التّعبِئَة العامَّة إلى تعبِئَةٍ روحِيَّة، أنتَجَت "مُسكّنات الموت"، مُؤَلَّفٌ جَمَع بين الفَلسفَة واللّاهوت، عَرَضَ فيه مُختَلف مفاهيم الموت لدى مختلف الأديان والشُّعوب، لا سِيَّما لدى الدّيانة المسيحِيَّة، فَشَكَّلَ مُؤَلَّفُهُ مرجعًا لاهوتيًّاوثقافيَّا غَنِيًّا، فَتَّشَ فيه عَمّا قد يُسكِت شُعورَنا بالقلق والخوف أمام الموت الّذي لا مَفَرَّ منه.

وقد وَجدتُ في فترة الحجر الصّحّي فرصةً للقراءة الّتي يَفتقدها كَثيرون منّا عادَةً بِسَبب كثرة انشِغالاتِهم العَمَلِيَّة والحَياتِيَّة. وما أفضل من قراءة كتاب قدس الأباتي، الّذي دائمًا ما يُغنينا ثقافةً وروحًا ومَعرِفةً لاهوتِيَّة؟

لِلوهلةِ الأولى قد يبدو مُؤَلَّف قدس الأباتي مُخيفًا أو قاتِمًا بعض الشّيء، إن مِن جهة مظهَرِه الخارِجيّ أو مَضمونه ومُحتواه؛ إذ يُغَلّفُهُ رَسمٌ بِريشَة المُبدِع الأب بشارة إيليّا، يوحي للقارئ بأنَّه إذ يفتح الكتاب يدخل غابةً مُظلِمَة يَتوه فيها كأنَّها تبتلِعُه دون إمكانِيَّة العَودة؛ ناهيك عن عنوان الكتاب الّذي يحمل رايةَ الموت، جامِعًا بين لَفظتَيْن مُتناقِضَتَيْن: الأولى –"مُسكّنات"- تُعطي شيئًا من الأمل، فيما الأخيرة – "الموت"- تَسلبه من قلب الإنسان لِيَستقرَّ مكانه الخوفُ والقلق مِن ذاك الشَّبح الّذي يَهابُه البَشَر. فما الّذي قد يُسكّن الموت أو يُخفف من وطأتِه؟ كأن في ذلك محاوَلَةٌ يائِسَة لِترويض حَيوانٍ شَرِسٍ لا يَعرف الرَّحمة، أو كأنّها مُحاولةٌ لِتَقييدِ وحشٍ ضَروس بِخَيطٍ مِن كَتّان أو حَرير.

غَير أنَّ الواقع مُختَلِفٌ تَمامًا.فمُذ تَشرَع في قِراءَة "تحفة" قدس الأباتي حَتى تكتشف أنَّ مُؤَلَّفَهُ مَصدَرُ غِنًى، يُقارِبُ موضوعَ الموت من منظارٍ ثقافيّ، فلسفيّ، علميّ، والأهمُّ من ذلك كلّه، ​مسيحي​ قِيامِيّ على ضوء الكتاب المقدّس، عارِضًا مختلف المفاهيم والمعتَقدات والمُمارَسات لدى الدّيانات والشُّعوب في مواجَهَة الموت، مُستَعينًا ببعض الحِكم والأقوال الفلسفِيَّة أو الشّعرِيَّة المأثورة حول الموضوع، ومركّزًا على الإيمان والرَّجاء المسيحي الّذي يقلب نظرَتنا إلى الموت، فلا يبدو بعد شَبَحًا مُخيفًا أو مَجهولًا مُظلِمًا، إنَّما سبيلًا يشعّ نورًا ينقلنا إلى الحياة.

مِن الطَّبيعي أن يَهابَ الإنسانُ ما يجهَلُه؛ فالموت قاتم، مجهول، لا يطالُه الفكر البَشَريّ. يُوَلّدُ في النَّفسِ قَلَقًا إذ يظهر الإنسانَ عاجِزًا أمامَه، غير قادرٍ على التَّفَلُّت مِن قَبضَتِه، فَيَرى فيه عَدُوًّا مَقيتًايَغدر به ويسلب منه حياتَه. ولكن أيَّة حياة؟ هل يُمكن اعتِبار الحياة الأرضِيَّة الزَّمَنِيَّة حياةً حَقَّة؟

يُجيب قدس الأباتي عن كلّ التّساؤلات البشرِيَّة في هذا السّياق ويَشعُّ مُؤلَّفُه نورًا يُسَكّن رهبَة الموت ويُطفِئُ ظُلمتَه فَيُبديهِ خَجولًا وصغيرًا أمام المسيح والحياة الأبدِيَّة الّتي مَنَحَنا إيّاها.

إنَّ ما يُخيف المرء ويُقلِقُه ليس الموت بِحَدّ ذاته إنّما تَصَوّراتِه لِما بعد الموت، وشُعوره بالوحدة في الموت مهما كان مُحاطًا بالأحبّاء في اللّحظات الأخيرة على الأرض، لذلك يُحاول السَّيطَرةَ على قَلقِه عبر "مُسَكّنات" يبتدِعُها لِتَعزية نفسه وإقناعها بِعَدَم لُزوم الخوف مِمّا هو مُوقَّت ومَرحَلِيّ، من هنا يُؤمن البعض بالتَّقمُّص أو بانتقال الرّوح من جسد إلى آخر أو بِعَودَتِها إلى الحياة الأرضِيَّة...

أمّا قدس الأباتي فيُكَلّمُنا على "مَسكّناتٍ" من نوعٍ آخر، ترتكز على إيماننا بالمسيح ورجائنا وثقتِنا بِمَحَبّته ورحمته اللّامُتَناهِيَة لنا، شارِحًا الموت والقيامة في المفهوم المسيحي، مُتطرّقًا إلى مفاهيم الحياة، الدّينونة، السّماء، جهنّم، المطهر وغيرها.

إنَّ ​يسوع المسيح​ قد صارَ إنسانًا لِخلاصِنا، ذاقَ الموتَ كَبَشَرٍ، نَزَل إلى أسافِل الأرض، إلى مملكة الجَحيم، تلك النّار الّتي لا تَطفأ حيث يَستَوطِنُ شَبَحُ الموت، أطفَأ لَهيبَها وسَحَقَ الأمخال الدَّهرِيَّة الضّابَطَة المُعتَقَلين. أمات الموتَ بالموتِ وحَطَّمَه، كاسِرًا شَوكَتَه وغالِبًا إيّاه كَي تكون لنا الحياة.

فَكَيف نَخافُ بعد وإلهُنا حيّ؟ كيف يَتَسَرَّبُ اليأس إلى قلبِنا ونحن نُؤمن بِرَحمَة اللّه اللّامُتَناهِيَة وبِقِيامة المسيح الّتي أدخَلَت البَشَرِيَّة إلى مجد الله؟ لا يَبقى عندنا مُبَرّر لِنَخاف " نار جهنّم المُتَّقِدَة" الّتي حَوَّلَها يسوع المسيح إلى "نار مَحَبَّة إلهِيَّة" لا تَنطَفِئ.

إنَّ الموت سَبيلٌ إلى الحياة، الحياة الحَقَّة في المسيح ومَعَه. الإنسانُ يولَدُ في الحياة الأبدِيَّة مِن خِلال المَوت. هو ليس "مَصيرًا نِهائِيًّا، بل هو حَدَثٌ عابر. إنَّه عُبورٌ مِن حياةٍ أرضِيَّة مُعَرَّضَة للفساد، إلى حياة أبديَّة لا فساد فيها. إنّها الحياة الحَقَّة." لقد قَدَّم لنا قدس الأباتي أنطوان راجح "مسكّنات الموت" بِكلماتٍ مِلؤها روح، فَشَدّد غَزيمَتَنا وقوّى قلوبَنا نحن المُتّكِلين على الرَّب لِيكون وحده رجاءنا، فيكون إيمانُنا بِرَحمَتِه اللّامُتناهِيَة ومَحَبَّتِه اللّامَحدودة مسكّنا للموت الّذي ما هو سِوى عُبور إلى الحياة.