على وقع الأزمات المتلاحقة التي تواجه اللبنانيّين من كلّ حدبٍ وصوب، تصدّر المشهد خلال اليومين الماضيين، حراكٌ سياسيّ جديد يقوده رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، أعاد إلى الأذهان دوراً لطالما طمح الأخير إلى لعبه، كوسيطٍ بين مختلف الأفرقاء المتنازعين.

من "البيت الدرزيّ" وأهمية ترتيبه، انطلق بري، فجمع الخصميْن اللدوديْن رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ ورئيس "​الحزب الديمقراطي اللبناني​" ​طلال أرسلان​، استكمالاً لـ"مصالحةٍ" سبق أن أبرمت بين الجانبين في بعبدا، من دون أن تكتمل فصولاً.

ولم تمضِ ساعاتٌ قبل أن يحطّ رئيس ​الحكومة​ السابق ​سعد الحريري​ في ​عين التينة​، في لقاءٍ سياسيّ بامتياز، ولو حمل عنوان "درء الفتنة"، على خلفيّة الشعارات المذهبية التي سُجّلت في الأيام الماضية، وكادت تأخذ البلاد إلى المجهول.

وفيما بدا "شبح" ​التحالف الرباعي​ّ الشهير حاضراً خلف الحراك الذي جمع حتى الآن شخصيّاتٍ تدور في فلكٍ محدَّدٍ، طُرحت علامات استفهام عمّا إذا كانت "مصالحة" كلّ من رئيس "​التيار الوطني الحر​" ​جبران باسيل​ ورئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ مطروحة على "أجندة" بري.

لا للفتنة!

بالنسبة إلى المطّلعين على حراك عين التينة، والعارفين بأدبيّات رئيس مجلس النواب، فإنّ عنواناً واحداً يحكم الحراك عين التينة المستجدّ، ألا وهو "لا للفتنة"، بكلّ أشكالها، وخير دليلٍ على ذلك أنّه لم ينطلق إلا بعد ما شهدته الأيام الماضية من قرعٍ لجرس "الإنذار" ممّا هو آتٍ، وبدأ جسّ نبضه على الأرض في تحرّك السادس من حزيران الجاري.

وإذا كان بري وآخرون يعتبرون أنّ ​الاتصالات​ التي جرت خلف الكواليس منذ هذا التحرّك، الذي تحوّلت شعاراته السياسية إلى مذهبية، وصلت إلى حدّ المسّ بالرموز الدينية والمقدّسات في مكانٍ ما، نجحت في منع استكمال السيناريو "المشؤوم" الذي كان البعض يدفع باتجاهه، فإنّ الرأي السائد لدى هؤلاء أنّه كان لا بدّ من "تتويج" هذه الجهود بمشهديّةٍ سياسيّةٍ مختلفةٍ، بعيدةٍ عن المشاحنات السياسية التي لا تنتهي، والتي تشكّل الفوضى في الشارع نتيجة طبيعية لها.

ولأنّ بري يخشى الفتنة، التي يصرّ على أنّ لعن من يوقظها لم يعد كافياً ولا مجدياً، فضلاً عن كونه متيقّناً أنّها تفوق في تداعياتها، المخاطر التي يواجهها ​اللبنانيون​ على كلّ المستويات، من ​الأمن​ إلى ​الاقتصاد​، فإنّه حرص على أن يبدأ حراكه من "الأقربين"، أو من "يمون" عليهم، ولا سيما على مستوى البيت الدرزي، فهو في آنٍ واحدٍ شريكٌ لأرسلان في الحكم، و"حليفٌ" لجنبلاط، ولو من خلف الستارة، بل إنّ "التهمة" الموجّهة له بتمثيل "مصالح" جنبلاط في الحكومة لا تأتي من العدم، وفق ما يؤكد العارفون.

أما اللقاء مع الحريري، فعلى رغم أنّه ليس الأول من نوعه، إلا أنّه يصبّ في إطار "درء الفتنة" ذاته، ليس فقط لكونه أتى بعد "مذهبة" الخطاب السنّي-الشيعي على وجه التحديد خلال الأيام الماضية، ومن قبل بعض الشخصيات التي عُرفت بـ"اعتدالها" قبل تلك "المتطرّفة"، إن جاز التعبير، ولكن أيضاً لأنّه جاء في ظلّ معطياتٍ تكثّفت في الأسابيع الماضية عن حراكٍ "سُنّي" يُعمَل عليه في وجه الحريري نفسه، قد يجد أوضح تجلٍّ له في البيانات الدورية الصادرة عن شقيقه بهاء، بعد غيابٍ عن الصورة منذ اغتيال والده ​رفيق الحريري​.

المهمّة مستمرّة...

بمجرّد أن شملت لقاءات بري كلاً من جنبلاط والحريري، وسط ما بدا في مكانٍ ما "تضخيماً" لها إعلامياً وسياسياً، استعاد كثيرون مشهديّة التحالف الرباعي الذي جمع في وقتٍ سابق الأفرقاء الثلاثة، بالإضافة إلى "​حزب الله​"، الذي يعتبر كثيرون أنّه مشاركٌ في هذه اللقاءات، ولو بصورةٍ غير مباشرة، باعتبار أنّ بري لم يقدم على أيّ من خطواته من دون التنسيق معه.

لكنّ العارفين يعتبرون أنّ هذه الفرضية "باطلةٌ" من الأساس، لسببٍ جوهريّ وهو أنّ الظروف اليوم مختلفة تماماً عن تلك التي سادت في مرحلة "التحالف الرباعي"، عشيّة انتخاباتٍ نيابية كان يُخشى أن تقود إلى الأسوأ، في ظلّ الانقسام الذي ولّده "​زلزال​" اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري. ومع أنّ بعض أركان هذا "التحالف" يجدون أنفسهم اليوم أقرب إلى بعضهم من أيّ "حلفاء" آخرين، على غرار الحريري الذي أعلن "​الطلاق​" مع شريكه في "التسوية" الوزير جبران باسيل، أو جنبلاط الذي يخاصم "العهد" منذ اليوم الأول، أو حتى بري الذي لم ينجح في خلق "كيمياء" مع باسيل على رغم كلّ المحاولات، فإنّ المضيّ بتحالفٍ يستثني شريحةً أساسيّةً من اللبنانيين لا يبدو واقعياً بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وفي حين يعتبر البعض أنّ "حزب الله" لا يمكن أن يسير في مثل هذا التحالف، وهو المتمسّك بتحالفه مع "التيار الوطني الحر" لاعتباراتٍ عديدة، أولها حاجته إلى "الضمانة" التي يوفّرها لهو"الغطاء" الذي يؤمّنه لسلاحه، على رغم التباينات التي تطفو إلى السطح بين الفينة والأخرى، والمرتبطة بالاستحقاق الرئاسي المقبل، ثمّة من يقول إنّ الحكم على مهمّة بري بهذا الشكل غير جائز لأكثر من سبب، أولها أنّها لم تنتهِ أصلاً، وأنّ في جعبة "الأستاذ" الكثير من الخطوات التي يعمل عليها خلف الكواليس، وقد يكون من بينها جمع باسيل وفرنجية، على صعوبة هذه الخطوة التي لا يبالغ من يصفونها بـ "المهمة المستحيلة"، علماً أنّ "حزب الله" سبق أن بذل جهوداً على خطها، قبل أن يذعن للأمر الواقع ويسحب يده منها.

وأبعد من ذلك، يشير البعض إلى "​اللقاء الوطني​" الذي بدأ التحضير لعقده في ​قصر بعبدا​ الأسبوع المقبل، والمرهون بموافقة رؤساء الكتل على المشاركة فيه حتى لا يتحوّل إلى "ملتقى الحلفاء" كما حصل في الحوار الاقتصاديّ الأخير. وبرأي هؤلاء، فإنّ هذا اللقاء يندرج في إطار المهمّة التي يعمل عليها بري، علماً أنّه دخل على خطّه بتولّي دعوة رؤساء ​الكتل النيابية​ بنفسه، منعاً لتكرار السيناريو السابق، لأنّ المطلوب اليوم هو جمع مختلف الأفرقاء، لا زيادة عوامل التفرقة والتأزيم، وهو ما قد ينعكس سلباً على الجميع، بل يطيح بكلّ المكتسبات التي تحقّقت على مرّ السنين.

ما النفع؟!

أبعد من "النوايا المبيّتة" خلف حراك بري المستجدّ، والتي يمكن الافتراض بأنّها "حسنة" في المبدأ، ثمّة من يطرح علامات استفهام عن "جدوى" إظهار مثل هذه المشهديّة، في وقتٍ لا شكّ أنّ اهتمامات اللبنانيين في مكانٍ آخر بالمُطلَق.

يريد اللبنانيون حلاً لأزماتهم المعيشيّة، من ارتفاع ​سعر الدولار​، إلى الغلاء الفاحش الذي يطال كلّ شيء، إلى لقمة العيش التي لم يعودوا قادرين على تأمينها، إلى فرص العمل التي انعدمت، ونسب ​البطالة​ التي تخطّت كلّ المستويات.

لم يعد يهمّ اللبنانيين أن يروا "زعماءهم" وهم يصافحون بعضهم بعضاً، ولم يعد مثل هذا المشهد يستحقّ أيّ "احتفاليّة"، تماماً كتباهي رئيس حكومتهم بـ"إنجازات" افتراضيّة لم يروا منها على الأرض شيئاً يُذكَر.

سئم اللبنانيون الخطابات والوعود الرنّانة، ويئسوا من الصور والمسرحيات الاستعراضية، والمطلوب مبادراتٌ جدية لإصلاح الوضع، قبل أن يأتي وقت تصبح فيه "الفتنة" التي تُستخدَم اليوم "شمّاعة"، مجرّد تفصيل...