في الظاهر، لا يشبه الحوار المُنتظَر في الخامس والعشرين من حزيران الجاري، والذي بدأ التسويق له بكثافة خلال اليومين السابقين، أياً من الجولات الحوارية السابقة التي شهدها ​قصر بعبدا​، والتي كان آخرها اللقاء الوطني المالي الذي عُقِد الشهر الماضي.

كثيرةٌ هي المعطيات التي تدفع إلى هذا الاعتقاد، بدءاً من الحراك السياسيّ غير المسبوق المرافق له، وما ينبثق عنه من "توزيع أدوار" بين رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب ​نبيه بري​، في محاولةٍ لكسب أكبر عددٍ من المشاركين، ولو على طريقة "المَونة".

وإذا كان بري الذي يبدو في مكانٍ ما "عرّاباً" للقاء المرتقب، يلعب دوراً أكثر من لافت على هذا الصعيد، فإنّ العناوين "الفضفاضة" للحوار، بعيداً عن أيّ جدول أعمال محدَّدٍ، تجعل كثيرين يتساءلون عن الهدف الحقيقي المنشود من ورائه.

وفي وقتٍ لم يتردّد بعض المعارضين في وضع "تعويم" الحكومة والعهد في صدارة هذه الأهداف، في ضوء الظروف "الحَرِجة" المحدقة، يرى آخرون أنّ كلّ ما يحيط بهذا الحوار يؤكد أنّ جوهره "أبعَد" من كلّ هذه العناوين ودلالاتها...

ضرورة قصوى!

في الرسالة الخطية التي وجّهتها رئاسة الجمهورية إلى الشخصيات المدعوّة للّقاء الوطنيّ المُنتظر، تمّ تحديد هدف الحوار بـ"التباحث والتداول في الأوضاع السياسية العامة، والسعي للتهدئة على الصعد كافة، بغية حماية الاستقرار والسلم الأهلي، وتفادياً لأيّ انفلات قد تكون عواقبه وخيمة ومدمّرة للوطن، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها".

وانطلاقاً من هذا "التشخيص"، لا يتردّد مؤيّدو منطق الحوار في اعتباره "ضرورة قصوى" في هذه المرحلة بالتحديد، وذلك للكثير من الاعتبارات والحسابات، أولها ينبثق من الأوضاع التي جاء في الدعوة أنّ "لبنان لم يشهد مثيلاً لها"، ما يمنحها طابع "الاستثنائية"، ولكن بالمعنى السلبيّ، باعتبار أنّ كلّ ما يلوح في الأفق لا يبشّر سوى بتفاقم الأزمات التي يتخبّط إزاءها اللبنانيون، خصوصاً على المستويين الاقتصادي والمعيشي، حيث بات واضحاً أنّ طبقة من "الفقراء الجُدُد" ممّن كانوا يصنّفون على "الطبقة الوسطى" في طور النمو، بل إنّها أصبحت الغالبية.

وكأنّ الأزمة المالية لا تكفي، فإنّ "حصاراً" بالمعنى الحرفيّ للكلمة يواجه اللبنانيين من كلّ حدبٍ وصوب، فشبح الفتنة عاد إلى الظهور في الآونة الأخيرة، ولو بطريقة "التسلّل" من بوابة التحركات المطلبيّة والشعبيّة المُحِقّة في غالبيّتها، وهو ما أدّى أصلاً إلى "الاستنفار" السياسي الذي رُصد على امتداد الأسبوع، فيما الأزمات السياسية المتشعّبة تتزايد، مع ارتفاع مستويات "القطيعة" بين أقطاب السياسة، في الموالاة والمعارضة على حدّ سواء، ما ينذر بـ"انفلات" قد يدقّ أبواب الأمن أيضاً، علماً أنّ الوثيقة التي سُرّبت عن اعتداءات "إرهابية" محتملة لم تكن بريئة بطبيعة الحال.

ولا تبدو تردّدات قانون "قيصر" الأميركي الذي دخل حيّز التنفيذ هذا الأسبوع أيضاً، معزولة عن الواقع اللبناني المُرّ، بل إنّ هناك من يعتقد أنّ هذا القانون قد يضرّ عملياً لبنان قبل سوريا، بالنظر إلى العلاقات "المتشابكة" بين عددٍ من أحزابه ومكوّناته والنظام السوريّ، وهي علاقاتٌ "جدليّة" لطالما أثارت سجالاتٍ في الداخل اللبناني، علماً أنّ ما حُكي عن "إعفاءات" سيطلب لبنان أن تشمله، حفاظاً على ما تبقّى من اقتصاده المدمَّر أصلاً، تبدو بعيدة المنال في أحسن الأحوال، ما يتطلّب مقاربةً من نوعٍ آخر.

حوار للحوار؟

المرحلة استثنائية إذاً. ربما لهذا السبب، لا يشبه الحوار المرتقب سائر الجولات الحواريّة، ولذلك أيضاً، "استنفر" الكثيرون لضمان نجاح الحوار بالحدّ الأدنى المُتاح، وهو ما يفسّر دخول رئيس مجلس النواب على خط الاتصالات الممهّدة له، وانتزاعه بعض "الموافقات" على المشاركة فيه ممّن قاطعوا الحوار الأخير من باب "النكاية" بالعهد.

ولعلّ هذه "الاستثنائية" هي التي تدفع البعض إلى الذهاب بعيداً في تفسير "توقيت" اللقاء، وصولاً إلى حدّ المقارنة بينه وبين الحوار الذي انعقد قبيل حرب تموز في العام 2006، بمبادرةٍ من بري أيضاً، باعتبار أنّ "المنطلقات" تكاد تكون واحدة في الحالتيْن، في ضوء الانقسام السياسيّ والمذهبيّ الذي كان سائداً يومها، تماماً كما هو الحال اليوم، مع فارقٍ وحيد يتمثّل بالحصار الاقتصادي والمالي، الذي يبدو ربما بديلاً عن ذلك "الأمنيّ" الذي كان سيّد الموقف يومها، على خلفيّة جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، وما تلاها من اهتزازاتٍ أمنيّة أخذت طابع الاغتيالات والتفجيرات المتنقّلة.

لكنّ كلّ هذه العوامل لا تخفي وجود "مآخذ" على الحوار المرتقب لدى الكثير من معارضي العهد، ممّن سارع بعضهم إلى اعتبار الدعوة "مشبوهة"، والتلميح سلفاً بمقاطعة الحوار، على رغم كلّ "الترغيب والترهيب"، رفضاً للمشاركة بما يعتبرونها "مسرحيّة"، لا تهدف عملياً، وفق هذا المنطق، سوى إلى "تعويم" الحكومة، ومن خلالها العهد، بعد "المأزق" الذي وجد نفسه فيه. ووفق أصحاب هذا الرأي، فإنّ عقد الحوار الآن، بعد الحديث المتزايد عن "تغيير حكومي"، وسحب الكثير من "عرّابي" الحكومة يدهم منها، لا يمكن أن يكون "مصادفة"، بل إنّه محاولة أخرى للهروب إلى الأمام، لعلّها تخفّف الأضرار على الفريق الحاكم.

ومن "المآخذ" التي تُسجَّل على الحوار قبل انعقاده، غياب أيّ "أجندة" واضحة ومفصّلة له، وكأنّ المطلوب "حوار للحوار"، وهو اعتقادٌ تعزّزه العناوين العامة والفضفاضة جداً الواردة في الدعوة الرئاسيّة، علماً أنّ ما سُرّب من بعض المصادر المعنيّة عن "احترام الاختلاف"، بمعنى حقّ كلّ مشاركٍ في الحوار أن يعبّر عن آرائه الخاصة، زاد الالتباس غموضاً، إذ إنّ ترويج صورة الانقسام، كما يحصل مثلاً في المفاوضات مع صندوق النقد، لا يصبّ في المصلحة العامة. وبالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ الحوار، أياً كانت أهدافه والنوايا من ورائه، ليس سوى "تفصيل" في المشهد الداخليّ، في وقتٍ ينتظر المواطنون أفعالاً أبعد ما تكون عن الأقوال، وخصوصاً عن "الاستعراضات" التي لا شكّ أنّ أيّ حوار لن يغرّد سوى في سربها.

ما يُحاك في الكواليس...

عندما وصل ​الرئيس ميشال عون​ إلى سدّة الرئاسة، قيل الكثير عن رفضه استكمال جلسات الحوار التي كان قد أطلقها الرئيس السابق ​ميشال سليمان​ خلال ولايته الرئاسية، تحت عنوان "​الاستراتيجية الدفاعية​"، إضافة إلى قضايا أخرى.

ومن الأسباب "الموجبة" لهذا الرفض كما قيل، أنّ عون لا يمكن أن يسير بـ "حوار من أجل الحوار"، أقصى ما يمكن أن يفضي إليه هو ما يشبه "إعلان بعبدا"، الذي تحوّل من بيانٍ وُصِف يوماً بـ "التاريخيّ"، إلى مادّة للتندّر على سليمان.

فرضت الأحداث على عون تغيير وجهته، فدعا إلى أكثر من حوار، ولكن تحت عناوين مختلفة، ليشكّل الحوار المرتقب "نقلة نوعية" في المسار، بغياب أيّ عناوين واضحة له، سوى "حماية الاستقرار والسلم الأهلي".

وعلى أهمية هذا العنوان، ومعه ما يُحكى عن "تعويم" للعهد يرى كثيرون أنّه بات أكثر من ضروريّ، فإنّ التساؤل عمّا هو "أبعد" من ذلك يبدو مشروعاً وجائزاً، فهل يعيد التاريخ نفسه، ويكون الحوار أشبه بـ "ضربةٍ استباقية" لما يُحاك في الكواليس؟!.