في غمرة الاستحقاقات والأزمات ال​لبنان​ية هذه الأيام، يبدو رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ كمن يغرّد في سربه الخاص، البعيد عن الحسابات الرائجة للموالاة والمعارضة، ولو كان محسوباً على الأخيرة بشكلٍ أو بآخر.

هكذا، تخطّى جنبلاط معارضته المُعلنة لـ"العهد"، ولا سيما ​رئيس الجمهورية​ ميشال عون، والتي سبق فيها أشرس خصومه، فكرّس الأجواء "التصالحيّة" معه، رافضاً الحديث عن "ندم" على انتخابه رئيساً للجمهورية، كما يفعل غيره اليوم، ممّن "هلّلوا" للتسوية الرئاسية يوماً، قبل أن ينقلبوا عليها أو تنقلب عليهم.

أكثر من ذلك، كان لافتاً كيف سارع "البيك" إلى تلقّف الدعوة الرئاسية إلى "​اللقاء الوطني​" المفترض الخميس المقبل بإيجابيّة، وفق قاعدة أنّه من الداعين إلى الحوار بصورة دائمة، وبالتالي حريٌ به الترحيب بأيّ حوار بدل مقاطعته، ما فُسّر على أنّه "غمزٌ" من قناة بعض "الأصدقاء" الذين نعوا الحوار قبل حدوثه.

وبموازاة ترميم العلاقة مع "العهد"، بعد مراحل من المواجهات المتفاوتة، يبدو واضحاً حرص جنبلاط على "تصفير" المشاكل مع الجميع، وهو ما تجلّى الأسبوع الماضي بحراكٍ لافت بدأ باستكمال "المصالحة" داخل البيت الدرزيّ، قبل أن يتمدّد إلى ​بيت الوسط​ و​معراب​...

"المهادنة" مستمرّة...

لم يكن مستغرَباً تحييد رئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​ لـ"بيك ​المختارة​" بشكلٍ أو بآخر عن "لائحته الهجومية" في مؤتمره الصحافيّ الأخير، على رغم أنّه جاء بعد أيامٍ على صدور القرار الاتهامي في حادثة قبرشمون، التي شكّلت عنواناً لمواجهة درزيّة-درزيّة حامية الوطيس، كان باسيل "سببها المباشر"، على خلفيّة زيارته إلى مناطق نفوذ "الاشتراكي" في الجبل.

وإذا كان صدور القرار الظنّي أتى بعد يومٍ واحدٍ على لقاء "مصالحةٍ" جمع فيه رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ كلاً من جنبلاط ورئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" ​طلال أرسلان​، وأفضى إلى تشكيل لجنة مصغّرة لحلّ المسائل الخلافية العالقة، فإنّه يدلّ على أنّ "البيك" ماضٍ، أقلّه حتى إشعارٍ آخر، في ​سياسة​ "المهادنة" مع "العهد"، وهو ما تجلّى أصلاً بترحيبه بدعوة ​الرئيس عون​ إلى الحوار، في حين كان معظم شركاء جنبلاط المفترضون في المعارضة، بمن فيهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، يميلون إلى التصعيد، وربما المقاطعة.

وفي حين حاول جنبلاط بنفسه التقليل من وقع موقفه، بتصويره "مبدئياً"، باعتبار أنّه لطالما كان من الداعين إلى الحوار، فبالتالي لا بدّ أن يكون منسجماً مع أقواله، على رغم تناقض هذا "المبدأ" مع سجلّ "البيك" الحافل بالكثير من الانعطافات السياسيّة وحتى الاستراتيجيّة، فإنّ العارفين بأدبيّات الرجل يعتقدون أنّ موقفه هذا نابعٌ من "خوفٍ" لديه من أيّ "انفلاتٍ" في ​السياسة​ سينعكس تلقائياً في ​الأمن​، وهو خوفٌ "تاريخيّ" لديه يشهد عليه موقفه في أحداث السابع من أيار الشهيرة، فضلاً عن كونه يتشاركه اليوم مع بري، الذي قرع خلال الأسبوع الماضي "جرس الإنذار" مراراً، على خلفيّة بعض التحرّكات الشعبيّة التي خرجت عن مسارها.

وانطلاقاً من هنا، يشير العارفون إلى أنّ مسلّمات الوفاق الوطني هي التي تعلو ولا يُعلى عليها في قاموس "البيك"، وأنّ الوقت ليس "الأمثل" للغرق في مستنقعات السياسة ودهاليزها الكثيرة، فيما البلد يغرق، والانهيار وقع، وما يجري اليوم هو محاولة "ترقيع" لا أكثر ولا أقلّ، وربما الحدّ من الأضرار، إن أمكن تضييقها. ولكلّ هذه الأسباب، يعتبر هؤلاء أنّ "المواجهة" اليوم بعيدة عن منطق الموالاة والمعارضة، بل يفترض مقاربةً "وطنية" من نوع آخر، مقاربة تجمع ولا تفرّق، حتى يبقى الإنقاذ خياراً مُتاحاً.

إعادة تموضع؟!

في موازاة "مهادنة" جنبلاط مع "العهد"، واستكماله "المصالحة" مع خصومه على الساحة الدرزية، برعاية ومباركة رئيس مجلس النواب، كان لافتاً "الحراك" الذي رُصِد على خطه الأسبوع الماضي، والذي قاده إلى بيت الوسط، حيثأطلق "جبهة دعم" لرئيس ​الحكومة​ السابق ​سعد الحريري​، فيما كان ممثلون عنه يلتقون رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، تحت عنوان "تنسيق المواقف".

لعلّ "البيك" أراد بـ"حرصه" على "الانفتاح" على القوى المعارضة للحكومة، أن يدحض فرضية "إعادة التموضع" التي انتشرت سريعاً لتفسير حراكه المستجدّ، وكأنّ الرجل يمهّد لانعطافةٍ جديدةٍ مثلاً، أو للعودة إلى صفوف الموالاة التي لم يغادرها تاريخياً إلا في حالاتٍ نادرة. لكنّ هذه الفرضية باطلة من الأساس، وفقاً للمحسوبين على المختارة، الذين يلفتون إلى أنّ هذه "المهادنة" ليست وليدة اليوم، ولو فرض "الحراك" المكثّف نفسه على المشهد، بل تعود إلى الأيام الأولى لولادة الحكومة، حين أطلق جنبلاط موقفه الشهير الرافض لإسقاطها، على قاعدة أنّ لا بدائل متوافرة في الوقت الراهن، وأنّمثل تلك الخطوة لن تؤدّي سوى إلى المجهول.

لكن، أبعد من ذلك، ثمّة من يعتبر أنّ جنبلاط يحاول استعادة "أطلال" أمجاده السابقة، القائمة على تشكيله "بيضة القبان" الفاصلة بين معسكريْن، ما منحهعلى مدى سنوات بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، حيثيّة لم يتمتّع بها أحدٌ سواه، هي التي جعلت منه صاحب القرار والفصل في البلاد، وهي ميزة افتقدها مع الخريطة السياسية ​الجديدة​ التي تبلورت منذ ما قبل ولادة العهد الحاليّ، وتحديداً مع انتهاء الانقسام العمودي بين ما يعرف بقوى الثامن والرابع عشر من آذار.

وبناءً عليه، يمكن الاستنتاج بأنّ جنبلاط لا يتوخّى الظهور اليوم فقط كساعٍ للصلح، ولو بالحدّ الأدنى مع الجميع،بمُعزَلٍ عن التباينات السياسية المشروعة، ولكن قبل ذلك، كمن يضع رِجلاً في الموالاة وأخرى في المعارضة، بحيث يستفيد من كليهما في آنٍ واحد، علماً أنّ اتهاماتٍ وُجّهت له منذ اليوم الأول لولادة الحكومة ليس فقط لناحية حصوله على "حصّته" من تعييناتها وتشكيلاتها، ولكن أيضاً بأنه مشاركٌ فيها بصورة أو بأخرى، نتيجة مفاوضات تمّت "خلف الكواليس"، بل إنّ ​وزيرة الإعلام​ ​منال عبد الصمد​ صُنّفت من قبل كثيرين، ضمن حصّة "البيك" المستترة، ما نفاه "الاشتراكيون" من دون إنكار العلاقة الحَسَنة معها.

سياسة لن تصمد؟!

قبل فترةبسيطة، كانت علاقة رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" متأرجحة إلى حدّ كبير مع معظم الفرقاء، حتى من يصنَّفون بالشركاء والحلفاء، ربما باستثناء "الصديق الدائم" رئيس مجلس النواب نبيه بري.

يكفي للدلالة على ذلك العودة إلى "حدّة" خطابات الرجل في مواجهة "العهد" ممثَّلاً بكلّ من ​الرئيس ميشال عون​ والوزير جبران باسيل، الذي كان "ممنوعاً" عليه في قاموس المختارة زيارة الجبل، حتى لا يشعر أهله بـ "الاستفزاز".

لم تقف هذه "الحدّة" هنا، بل وصلت لتشمل من وصفه "البيك" الأسبوع الماضي بـ"رمز الاعتدال اللبناني والسنّي"، في إشارةٍ إلى الحريري، الذي كانت علاقته به تعرّضت بدورها للكثير من "الاهتزازات"، تجلّت يوم وصفه جنبلاط ساخراً بـ"رجل ​الدولة​ الأول في لبنان".

هي سياسة "صفر مشاكل" يبدو أنّ "البيك" وجد فيها ضالته، وربما "طموحه" ليعود "الرقم الصعب" في المعادلة، لكنّها سياسة يؤكد العارفون بـ"البيك" أنّ "صموده" على ضفّتها لن يكون يسيراً، وأنّ "العقبات" التي ستعترض طريقها قد تكون أسرع...