سيطرت ​الدولة العثمانية​ لأربعة قرون على معظم المنطقة التي يتشكل منها ​العالم العربي​ اليوم ، و لم ينحسر النفوذ العثماني عنها ألا بالتدخل الأوربي الذي اسقط هذا النفوذ على مرحلتين الأولى بالإخراج من شمالي ​أفريقيا​ حيث احتل الأوربيون تلك البلدان مع بداية القرن التاسع عشر احتلالا امتد من ​ليبيا​ إلى ​المغرب​ شاملا تونس و ​الجزائر​ ، و الثاني عبر أسقاط الدولة العثمانية برمتها وإخراجها من المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى في مطلع القرن العشرين و إعادة ​تركيا​ إلى اقرب ما يكون إلى حدودها الطبيعية ألا ما سلخ من دول الجوار من مناطق الحقت بها في ظل تواطؤ غربي و عدم اقتدار عربي كما حل بلواء إسكندرون السوري الذي اغتصبته تركيا التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك على أساس علماني و جعلها ترث الدولة العثمانية المنهارة التي كانت قائمة على أساس إسلامي مدعى و يحكمها سلطان يعد نفسه خليفة للمسلمين.

تنكرت دولة أتاتورك للجوار العربي واتجهت إلى الغرب بعد ان جاهرت بسعيها لأخذ كل شيء منه بدءا بالحرف الذي جعلته يحل محل الحرف العربي في كتابة ​اللغة​ التركية وصولا إلى اعتماد ​العلمانية​ والعمل بالديمقراطية الغربية و​الاقتصاد​ الليبرالي ثم وبعد الحرب الثانية أضحت تركيا عضوا في ​الحلف الأطلسي​ المنظومة العسكرية التي إنشاها الغرب للدفاع عن النفس في وجه ​الشيوعية​. وبعد أنشاء ​إسرائيل​ التي اغتصبت ​فلسطين​، برزت تركيا كحليف استراتيجي أساسي لها ولا يمكن ان ننسى "تفضل " سلاطين بني عثمان خاصة عبد الحميد على ​اليهود​ ومنحهم التسهيلات منذ العام 1830 وحتى سقوط الدولة العثمانية في العام 1918 من اجل التمهيد لإقامة دولة لهم في فلسطين. فسهلوا لهم شراء الأرض و​الهجرة​ إليها وإقامة المعسكرات او القرى العسكرية "كيبوتس " التي تحولت لاحقا إلى نقاط ارتكاز رئيسية للقتال وشن الحرب التي أفضت إلى السيطرة على كثير من أراضي العرب.

أذن تركيا العلمانية الحديثة وريثة الدولة العثمانية "الإسلامية " المنحلة، تصرفت منذ قيامها بشكل يبعدها عن العرب ويلصقها بعدوهم ويجعلها مركز خطر دائم، تصرفت كما لو أنها عدوا غير معلن، او عدوا خامد في الوقت الراهن.

بيد ان ​الدول العربية​ خاصة سورية و​العراق​ المتشاركتان مع تركيا بحدود برية تزيد عن 1100 كلم، لم يبادلوا تركيا الشعور بالعداء هذا اقله ظاهرا حيث لم يكن من مصلحتهم او في جدول أولوياتهم الرد على تركيا بالنفس العدائي الذي يطبع الأداء التركي حيال العرب، وتميز السلوك العربي عامة والعراقي السوري خاصة باعتماد ​سياسة​ سحب الذرائع لمنع أي احتكاك مع تركيا او نبش التاريخ التركي الأسود في العلاقة مع العرب او أثارة أي مشكلة من قبيل ​الاغتصاب​ للأرض كما هو حال الإسكندرون العربي السوري.

وبسبب العقلانية والواقعية العربية التي فرضتها الظروف الإقليمية والدولية وفي طليعتها الصراع العربي الصهيوني كانت تحل أي ازمه بين تركيا والعراق وسورية بالحوار الذي يفضي إلى اتفاق تشعر فيه تركيا أنها حصدت كسبا ما يجعلها تسكت ظرفيا كما حصل مثلا في العام 1998 في ازمه المسلحين ​الأكراد​ ومياه الفرات مع سورية، حيث عولج التوتر باتفاقية أضنة التي هدأت "الغضب التركي " في وقته.

بيد انه في العام 2002 كان تحول استراتيجي مهم في الداخل التركي، تمثل بوصول الإسلاميين إلى الحكم عبر ​حزب العدالة والتنمية​ بقيادة رجب طيب اردغان، تحول عول عليه العرب عامة وسورية خاصة الكثير، حيث ان هذه الحركة التي تتظاهر بإسلاميتها رفعت شعار نصرة ​الفلسطينيين​ والعمل من اجل حل قضيتهم. واستغلت سورية الظرف الذي طال انتظاره لأكثر من 50 سنة وظنت ان التوزان الاستراتيجي الذي طالما عمل الرئيس ​حافظ الأسد​ على ​تحقيق​ه بعد اختلاله إثر انحلال ​الاتحاد السوفياتي​، ان هذا التوازن يتلقى دفعة تزخيم قوية بضم الرقم التركي إلى الجانب العربي في المعادلة او اقله بخروج هذا الرقم من الجانب الإسرائيلي فيها. ولتشجيع اردغان في سياسة تركية ​الجديدة​، استجابت سورية إلى معظم ما طلبته تركيا لتكوين ​البيئة​ الاستراتيجية الجديدة التي تخرج تركيا من دائرة العداء للعرب والتحالف مع إسرائيل.

لكن النتائج جاءت عكس التوقع حيث ظاهر ​السياسة​ التركية خلاف باطنها وتببن ان اردغان يتقن سياسة الاحتيال والزئبقية في المواقف والاستفادة من حسن الظن العربي به، ويمارس الخداع بإطلاق استراتيجية "صفر عداوات"، ليغري الآخر بان لا أطماع لديه بحقوقه وثرواته واستغل فتح الأبواب العربية بوجهه خاصة وانه لمس وجود نزعة عربية لإقامة توازن إقليمي استراتيجي بين تركيا و​إيران​.

ومع الأيام الأولى من الحريق العربي الذي اسمي ربيعا، انفضحت حقيقية الدور الذي يلعبه اردغان، وظهر خبثه و نيته إحياء الدور العثماني البائد وتتالت الأيام لتقدم الدليل تلو الدليل بان اردغان هو أخطر حاكم تركي على المصالح العربية منذ العام 1918 وحتى اليوم حيث تأكد بالبينة والدليل القطعي، ان تحالف اردغان مع إسرائيل هو الأقوى من كل شيء، وان اردغان يستند إلى تنظيم إسلامي دولي من اجل استعادة السيطرة على بلاد العرب وبانه يتاجر ب​القضية الفلسطينية​ كذبا وخداعا للوصول إلى هذا الهدف و انه وينخرط في حلف عميق مع إسرائيل ضد العرب ويتناغمان معا ليساند كل طرف الطرف الأخر في سعيه لمكسب او مصلحة على حساب العرب.

والان وفي الوقت الذي تستعد فيه إسرائيل لابتلاع فلسطين التاريخية كلها وفقا لرؤية ​ترامب​ للسلام المسماة ​صفقة القرن​ التي تصفي القضية دون ان تعيد للفلسطينيين حقا او تحقق لهم مصلحة يتجه اردغان إلى سلخ أراضي في العراق وسورية تحت ذريعة تحقيق ​الأمن​ القومي التركي، ويسعى لمد اليد على ليبيا عبر حكومة ​الإخوان المسلمين​، ويحضر لوضع اليد على تونس ليقيم فيها حكومة الإخوان إما الأخطر فهو ما يعد لمصر من خلال استدراجها إلى حرب في ليبيا تترافق مع اضطرابات في الداخل المصري تقود إلى انهيار وتشتت.

ان هذا الزحف التركي المموه بلباس إسلامي والمغطى بعباءة الإخوان المسلمين يستند إلى تحالف واضح مع إسرائيل وعلاقة تشجيعية متقلبة من الحلف الأطلسي وامل بتفاهم مع ​روسيا​ يسعى اردغان عبره إلى عملية مقايضة معها في ملف او أكثر في الإقليم او دوليا، كما يستفيد من انشغال إيراني بالمواجهة مع ​أميركا​ التي تخوض ضد إيران حربا إرهابية اقتصادية تحت عنوان ممارسة الضغوط القصوى.

و رغم ان مصلحة العرب تكمن في الصداقة مع تركيا إذ لا مصلحة لهم مطلقا في عدائها ، و طبعا لا مصلحة لهم بقتالها ، فإننا نرى ان خطر تركيا اليوم على عليهم ليس طفيفا عارضا بل هو خطر استراتيجي اذا تحققت أهدافه يتطلب عشرات السنين لإزالة أثاره ، و ان وقف هذا الأمر مصلحة عربية تركية مشتركة .لكن ذلك لا يكون بالاتكال على منظمات دولية متواطئة او عاجزة او دول لها انشغالاتها ومصالحها بل يكون بالاستناد إلى الحكمة في التعاطي مع الشأن عبر وضع استراتيجيات دفاعية عقلانية وواقعية تضعها الدول المهددة تمكن من تحشيد القوة و استعمالها للدفاع الفعلي حيث يجب دون الانزلاق إلى حروب عبثية كما يجري في ​اليمن​ اليوم ، و ان يستفيق العرب و لو بالصدفة و لمرة واحدة على الخطر الجارف الذي يهدد بعضهم اليوم و كلهم غدا و ليعلموا ان من يشعر نفسه بمنأى عن الخطر الصهيوني او التركي او سواه فهو واهم ...فكما كانت بلاد العرب كلها قبل العام 1920 تحت السيطرة او الاستعمار الأجنبي فان الأخطار الأجنبية تهدد هذه الدول بتقسيمها وبالعودة إلى ما كانت عليه.. أخطار جسام يفترض لمواجهتها اعتماد استراتيجية واقعية عقلانية شجاعة غير انتحارية تقوم على ما يلي:

1) وقف الحروب العربية العبثية والتدخل في الشؤون الداخلية وكل أنواع العدوان المباشرة وغير مباشر بين الأشقاء.

2) جمع الكلمة العربية ضمن ​الجامعة العربية​ لإظهار القوة العربية المتماسكة التي تقنع الآخر بوجوب وقف عدوانه.

3) وقف العداوات الوهمية التي اخترعتها إسرائيل وأميركا للعرب كما فعلوا بالعلاقة مع إيران

4) ترك مهام الدفاع للحكومات الشرعية ترفدها الشعوب في كل دولة مع تقديم ما يمكن من مساعدة دون تجاوز.

5) التعامل مع كل حالة تمارس فيه تركيا او سواها عدوانا وفقا لخصوصيتها، فاذا كان دعم ​الحكومة​ في العراق وسورية مفيدا في تمكينها من مواجهة الاحتلال التركي عسكريا، فان التصدي للتدخل التركي في ليبيا قد لا يكون مفيدا بحرب تشن على لبيبا عبر الحدود وأعنى هنا انه قد ينصب فخ لمصر هناك ويجب ان تتجنبه خاصة مع تحريك موضوع ​سد النهضة​ مع ​أثيوبيا​.

اعلم ان هذا الاقتراح حلم صعب المنال ...وأثق بان محور ​المقاومة​ سيحقق المبتغى ويتابع الانتصارات في النطاق الذي يعمل فيه...ولكن ليس خطا ان نحلم وليس خطا ان ندعو الشقيق المهدد بخطر ما ان يحتاط ويتجنب فخا ينصب له.