خلال ​الساعات​ والأيّام القليلة الماضية، تمحورت كل المواقف والإتصالات على الساحة السياسيّة الداخليّة حول لقاء ​بعبدا​ الحواري، لجهة من سيَحضر ومن سيُقاطع، وهل سيتمّ تثبيت موعد اللقاء أم سيتمّ تأجيله بعد إرتفاع عدد المُقاطعين والمُتردّدين، في حين لا يزال إهتمام المُواطنين في مكان آخر، وتحديدًا في كل ما له علاقة بصُعوباتهم الحياتيّة والمَعيشيّة اليوميّة، وحُكمًا بمشاكلهم الإقتصاديّة والماليّة وبمسألة إستمرار إرتفاع سعر صرف ​الدولار​، مع تراجع الإهتمام بالشؤون السياسيّة إلى أدنى مُستوى. لكن ما لا يُدركه ال​لبنان​يّون أنّ الإهتمام بهذا اللقاء ينطلق من خلفيّات مُهمّة وبالغة الدلالات. فما هي؟.

صحيح أنّ غياب جدول الأعمال الواضح عن "اللقاء"، يعني تلقائيًا عدم توقّع ولادة أيّ "خريطة طريق إنقاذيّة" عنه، لكنّ الأصحّ أنّ مُشاركة مُختلف القوى السياسيّة فيه، يعني تأمين كلّ من الغطاءين السياسي والمَعنوي الضروريّين للحُكومة وللعهد ككل، وإستمرار المُقاطعة–بغضّ النظر عن نسبتها وحجمها، يعني أنّ الفترة الزمنيّة المُتبقّية من عهد رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ لن تكون سهلة على الإطلاق، نتيجة تلاقي أكثر من جهة سياسيّة على إفشال عمل الحُكومة، وضُمنًا على إفشال ما تبقّى من العهد الرئاسي.

من هنا إنّ مُسارعة رؤساء ​الحكومة​ السابقين لإعلان مُقاطعتهم للإجتماع، وتأثير هذا القرار بشكل سلبي على قرار مجموعة من القوى الأخرى، إضافة إلى الإستمرار في اللعب على وتر الميثاقية السنيّة المَفقودة على الرغم من السعي إلى تمثيلها عبر رئيس الحكومة ​حسان دياب​ وعبر "​اللقاء التشاوري​"، يعني أنّ الإنقسام السياسي–الطائفي عاد ليطفو على السطح من جديد، ولن تُطوى صفحته في المُستقبل القريب. وبحسب ما يتردّد داخل جُدران "تيّار المُستقبل"، إنّ على من أفشل "التسوية الرئاسيّة"-التي ما كانت لتتمّ لولا مُوافقة "التيّار الأزرق" عليها، أن يعرف أنّه لا يُمكن إبعاد "المُستقبل" عن الحُكم، وتحميله مسؤولية الإنهيار وما آلت إليه الأمور، ثم الطلب منه توفير الغطاء السياسي والمَعنوي للسُلطة التي تُطارد رموزه! ويرفض "المُستقبل" مَقولة إنسحابه من السُلطة من تلقاء نفسه، ويعزو السبب إلى رفض تبنّي مطالب رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ لترؤس حُكومة جديدة، وإلى سعي "التيّار الوطني الحُرّ" بجُهد كبير لإستبداله–وهو ما حصل في نهاية المطاف.

وبالتالي، إنّ أيّ إجتماع ليس مُهمًا بحد عينه، فأيّ لقاء لبضع ساعات لن يُغيّر شيئًا في الواقع القائم، لكنّ دلالات الحُضور من عدمه كبيرة، وهي تتراوح بين خيارين: إمّا منح الحُكومة الفرصة لمُحاولة إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، وإمّا العمل على إفشال كل خُطواتها، والعمل على إفشال العهد ردًا على إفشال التسوية الرئاسيّة. ومُقاطعة "المُستقبل" تدلّ على إعتماد الخيار الثاني، وتحييد بعض القوى نفسها عن هذا الخيار، ليس لدعم العهد أو الحُكومة، إنّما جاء لأسباب تكتيّة خاصة. ومثلاً إنّ مُسارعة "الحزب الإشتراكي" إلى إعلان مُشاركته في اللقاء، قبل إنتظار مواقف باقي الأفرقاء وحتى قبل إتضاح مصير اللقاء ككل، سببه الرغبة في تحييد نفسه عن المشاكل ظاهرًا، وتمرير المرحلة الراهنة بأقلّ خلافات مُمكنة، والأهمّ تمتين حلفه مُجدّدًا مع رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه برّي​، تحضيرًا لخُطوات سيتمّ تنسيقها بين الطرفين، ومع أطراف آخرين، في المُستقبل القريب وكذلك في المُستقبل المُتوسّط. أمّا غياب رئيس "تيّار ​المردة​" الوزير السابق ​سليمان فرنجية​ عن اللقاء، فهو بسبب إستمرار العلاقة المُتردّية مع "التيّار"، والصراع على منصب الرئاسة المُرشّح للتصاعد في المرحلة المُقبلة.

ويُمكن القول إنّ إفشال اللقاء قبل إنعقاده لا يعود فحسب إلى تجاوز أمين عام "​حزب الله​" السيّد ​حسن نصر الله​ صلاحيّات السُلطة الننفيذيّة الرسميّة، عبر رسمه خريطة طريق كاملة لكيفيّة التصرّف سياسيًا وإقتصاديًا وماليًا، إلخ. ولا إلى خُطاب رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" النائب ​جبران باسيل​ العالي السقف والنبرة والذي لم يُوفّر أحدًا، حيث أنّ هذا الفشل يعود أيضًا إلى قرار مُتخذ من قبل مجموعة واسعة من القوى السياسيّة على مُواجهة العهد الرئاسي، إمّا بشكل علني واضح أو بشكل مُستتر وغير ظاهر، والأمور غير مَحصورة بأفرقاء الإنقسام السياسي العامودي المعروف في لبنان، بل تتعدّاه إلى خُصوم "التيّار الوطني الحُرّ" داخل الفريق السياسي الواحد!.

وفي الخُلاصة، طالما أنّ "التسوية الرئاسيّة" قد سقطت، لا أمل أن تكون العلاقات بين أطراف هذه التسوية ورديّة، حيث أنّ الأمور مُرشّحة للذهاب إلى مزيد من الصدام السياسي في ما بينهم. ويبدو أنّ "التيّار" لن يألو جُهدًا لمُواجهة خُصومه الذين يزدادون عددًا بشكل تصاعديّ مع الإقتراب من نهاية ولاية الرئيس العماد عون، وهؤلاء يبدو أنّهم لن يتردّدوا بدورهم في السعي لدفع "التيّار" إلى الغرق أكثر، حتى لوّ أنّ الجميع في مركب واحد!.