على مدى السنوات الماضية، لا سيما ما بعد العام 2005، كان لبنان ساحة مواجهة إقليمية بشكل أساسي: سعودية-إيرانية، لكن ​الولايات المتحدة​ كانت حاضرة بقوة من خلال دعمها المحور الذي تقوده الرياض، في حين أن الكثيرين كانوا يعتبرون أن المواجهة هي أميركية-إيرانية بالدرجة الأولى، إلا أن اللافت، في الأشهر الماضية، كان تراجع الحضور السعودي، بغض النظر عن الأسباب، حيث باتت واشنطن حاضرة بقوّة على هذه الساحة، بهدف واحد هو محاصرة نفوذ "​حزب الله​" المتصاعد.

وسط هذه الأجواء، دخل الجانب ​الصين​ي على خطّ المعادلة المحليّة، خصوصاً بعد خطاب أمين عام "حزب الله" ​السيد حسن نصرالله​، الذي جدّد فيه الدعوة للتوجّه شرقاً، متحدّثاً عن عروض مصدرها بكين للإستثمار في أكثر من قطاع حيوي، الأمر الذي أدّى إلى إستنفار العديد من القوى المحليّة الحليفة لواشنطن، في حين كانت القوى المنضوية في تحالف ​8 آذار​ تستكمل دعوة السيد نصرالله، عبر تقديم كل الأسباب الموجبة لها.

في هذا السياق، تشير مصادر سياسية مطلعة، عبر "النشرة"، إلى أن بكين لم تعد تتردد في الإفصاح عن رغبتها في حجز موطئ قدم لها على الساحة اللبنانيّة، وهو ما كانت تسعى إليه في السنوات الماضية بشكل خجول، حيث سارعت سفارتها في لبنان إلى التعليق على دعوة أمين عام "حزب الله"، ولو بشكل غير مباشر، عبر تأكيد إستعداد بلادها للقيام بالتعاون العملي بنشاط مع الجانب اللبناني، وذلك في إطار العمل المشترك لبناء الحزام والطريق.

وتلفت هذه المصادر إلى أنّ هذا الواقع تأكّد بعد البيان الثاني الصادر عن السفارة، بعد المواقف التي أطلقها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ​ديفيد شينكر​، حول التعاون الصيني-اللبناني المحتمل، حيث تعتبر أن اللغة التي اعتمدت في هذا البيان تؤشر إلى أن بكين لم تعد تمانع الدخول في مواجهة مع واشنطن، في حال أرادت الأخيرة الذهاب إلى هذا الخيار، خصوصاً أنها بدأت تلمس محاولات "شيطنة" دورها، إنطلاقاً من الساحة المحلية، وهو ما كان ظهر من خلال حملة إعلامية وسياسية واسعة النطاق.

من وجهة نظر المصادر نفسها، حتى الساعة لا يمكن الحديث عن مواجهة فعليّة بين القوّتين العظميين على الساحة اللبنانية، لكنها توضح أنه بعد أزمة تفشّي ​فيروس كورونا​ المستجد حول العالم بات من الواضح أن العلاقة بينهما ذاهبة إلى المزيد من التصعيد، وبالتالي المواجهة، ذات الطابع الإقتصادي والتجاري، قد تقع على أكثر من مسرح عمليات، في حين أن الواقع اللبناني الحالي يفتح الباب أمام هكذا سيناريو، في ظل الأزمة المالية والإقتصادية الحادة التي تمر بها البلاد.

من جانبها، ترى مصادر معنيّة في قوى الثامن من آذار، عبر "النشرة"، أنّ ورقة التوجّه شرقاً حقّقت الهدف الأول منها، لناحية دفع الولايات المتّحدة إلى الإدراك بأنّ لدى لبنان خيارات بديلة في حال الإستمرار في سياسة الضغوط والحصار الإقتصادي، وتلفت إلى أنّ ذلك يتأكّد من خلال ردّة الفعل التي قامت بها على مدى الأيام الماضية، الأمر الذي من المفترض أن تأخذه الجهات المحليّة المعنيّة بعين الإعتبار، خصوصاً أنّ واشنطن ليست وحدها المستنفرة لمتابعة التطورات على هذا الصعيد، بل أيضاً العديد من القوى الغربيّة الأخرى.

بالنسبة إلى هذه المصادر، الردّ الصيني المتكرّر يؤكّد جدّية توجّه بكين، بالرغم من أن الحديث عن الشرق لا يتعلق بالاخيرة وحدها، نظراً إلى وجود العديد من الجهات الفاعلة التي من الممكن التعاون معها في هذا المجال، في حين أنّ الردّ الأميركي يؤكّد أهمية هذا الخيار، الذي دفع واشنطن إلى الخروج علناً للتحذير منه على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى.

في المحصّلة، ترى المصادر نفسها أنّ الواقع المستجدّ يفرض على الحكومة اللبنانيّة التعامل مع هذا الخيار بكل جدّية، نظراً إلى أنه يمثل ورقة قوّة في المفاوضات التي تخوضها مع ​صندوق النقد الدولي​، بعد أن دخلت هذه المفاوضات على أساس أنها الخيار الوحيد، وتشدد على أن ليس المطلوب أن يكون لبنان في صدام مع الغرب للتوجه شرقاً، بل أن ينوّع في خياراته الإقتصاديّة كي لا يبقى رهينة الخيار الواحد.