تُعتبَر العِظَةُ على الجَبلِ من أجملِ ما نقرأُه في الكِتابِ المُقدَّس، وتَحديدًا في العهد الجديد. فقد جَلَبَت كثيرين إلى المَسيحيّةِ، وجعلَت عُظمَاءَ في التاريخِ يُعِيدُونَ حساباتِهم في مسيرةِ هذه ​الحياة​. أدباءُ، شُعراءُ، فلاسِفةٌ، قَادةٌ، زُعماءُ، وغيرُهم سُحِرُوا بها، وسَجَدُوا بِسَبَبِها لإلهِ المَجد.

حَتمًا هي دُستورٌ إلهيٌّ بِكُلِّ ما لِلكلِمَةِ مِن معنًى، فلا عجَبَ مثلًا، أنَّ "​غاندي​" بعد أن قرأها، قال للمسيحيّين الإنكليز الّذين استعمَرُوا بلادَهُ: "أعطُونِي مسيحَكُم وخُذُوا مَسيحِيَّتَكم". وقد قال الآباءُ القِدّيسُونَ عن هذه العِظَة: "مَن عاشَها ارتَفَعَ، ليسَ فقط إلى الجَبَلِ، بَل إلى السَّماء".

العِظَةُ على الجَبلِ مَذكورَةٌ في إنجيلِ متّى بِالتّفصيلِ إذ تحتَلُّ ثَلاثَةَ إصحاحاتِ (٥-٦-٧)، وكذلك يَذكُرُها لوقا الإنجيليُّ مَعَ بعضِ التّمايُزِ، ولكن بأقَلَّ تفصيلا.

إنجيلُ هذا الأحدِ مأخوذٌ مِن هَذِهِ العِظَةِ، ويَبدأُ على الشَّكلِ التّالي: "سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ"!(متى ٢٢:٦-٢٣).

هاتان الآيتان تُلخِّصان الكثيرَ في حياتِنا المسيحيَّة. فلنَطْرحِ السُّؤالَ التّالي: ماذا تَعني عِبارَةُ "عينُكَ بسيطة"؟ وما الّذي قصدَهُ يسوعُ تحديدًا فيها؟.

للأسف هُناكَ خطأٌ شائِع بِتفسيرِ كلمةِ "بَسيط"، وأحيانًا كثيرة لا نستعمِلُها في مكانِها المُناسِب، لا بل نُطلِقُها على أشخاصٍ للإشارَةِ إلى خِفَّةِ عقلِهم. بينما المعنى الحَقيقيُّ لهذهِ الكَلمةِ مُغايِرٌ تمامًا، وهو يعني الشَّيءَ الفَسيحَ المُمتَدَّ وغيرَ المُركَّب.

وعبارَةُ "أمرٌ بَسيط" قريبَةٌ جدًّا مِن المَعنى الأَصلِيّ، إذ تَعني أمرًا سَهلًا وَغيرَ مُعَقَّد. كذلك الكَلِمَةُ العَامِيَّةُ "بَسيطة" تَأتي لتُخَفِّفَ وِزرًا معيَّنًا.

مِن هُنا مَثلًا نَقرأُ في لِسانِ العَرَبِ "مُنبَسِطُ الوَجهِ، أو مُنبَسَطُ الأَسارير" أي فَرِحٌ ومُتَهَلِّل. كَذلِكَ للكَلِمَةِ مُشتَقَّاتٌ مِثلَ البَسَاط وجمعُها بُسُط، وكلمةُ البَسيطةُ وبَسطَة وغيرُها.

في لُغَةِ الإنجِيل نَجدُ أنَّ الكلمَةَ الأَصلِيَّةَ المُستَعمَلَةَ في اللّغَةِ اليُونَانِيَّةِ هي "أبلوس ἁπλοῦς" وتَعنِي غيرَ مُتَعرِّجٍ وغيرَ مُلتَوٍ ولا وُجودَ لِطَيَّاتٍ وعُقَد.

وهُنا يَتبَادَرُ فَورًا إلى ذِهنِنَا ما نَادى بهِ القِدِّيسِ يُوحنّا المُعمَدان، كما جاءَ أصلًا على لِسانِ إشعياءَ النّبي: "أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَتَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً، وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً" (لو ٤:٣-٥).

فالعينُ البَسيطَةُ للإنسانِ تَرتَبِطُ بِكُلِّ ما يَجُولُ في ذِهنِهِ. والذِّهنُ بِحَسَبِ الكَلِمَةِ اليُونَانِيَّةِ "النُّوسνοῦς "، هُو عُمقُ ذَواتِنَا، حيثُ يلتقِي العَقلُ بِالقَلب. فإمّا يَكونُ الذِّهنُ مُرتَفِعًا ومُتَجلِيًّا، أي نُورانيًّا، أو يَكونُ سَاقِطًا وتُرابِيًّا أي مُظلِمًا.

وهذا يَطرَحُ أمامَنا مَوضُوعَ الأَهواءِ الدَّفِينَةِ في كُلِّ واحِدٍ مِنّا. فَهَل طَريقُنا الدَّاخِلِيَّةُ مُستقِيمَةٌ، سَهلَةٌ وبَسيطَة، أم مُلتَوِيَةٌ ومُتَعرِّجَة ومُعَقَّدة؟ وهذا طَبعًا يَظهَرُ في الطَّريقَةِ الّتي نرى فيهَا الأُمورَ، وكيفَ نتعَامَلُ مَعَها، وكيفَ نتَلَقَّفُها.

عِلمُ النَّفسِ يَتكَلَّمُ على الوَعيِ واللّاوعِي. ويُعطي لِلّاوَعي دورًا كبيرًا في طَريقَةِ تَفكيرِ الإنسَان. هُناكَ تَسكُنُ العُقَدُ النَّفسِيَّةُ، وتَبدأُ المُعالَجَات.

المَسيحِيَّةُ تَستَجدِي الطَّبيبَ الشَّافِيَ الّذي أتى لِيُحرِّرَنا مِن خَطايانا، ويُنَقِّيَ أهواءنا. فكثيرًا ما يصبح ​الإنسان​ مُسيَّرًا بأهوائه، ويَنجَرُّ إلى ما لا يُحمَدُ عُقبَاه.

المَسيحِيَّةُ تتكَلَّمُ على تَنقِيَةِ اللّاوَعي، والتَّحرُّرِ مِنَ الأَهواءِ المُعِيبَةِ لِوِلادَةٍ جَديدَةٍ بِالمَسيح. الإنسانُ في الأساسِ نُورَانِيٌّ، والخَطِيئَةُ تَأتِي وتُظلِمُه. هُوَ يَشتَهِيهَا ويَبحَثُ عَنها، ويُدخِلُها إلى جَوفِهِ وتُعَشِّشُ فيهِ، لِيعُودَ فَيطلُبَ المَزيدَ والمزيد.

ما قالَهُ الرَّبُّ لِتُوما الرَّسولِ يَرسُمُ لنا طَريقَ الخَلاصِ "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ"(يو ٦:١٤).

يَسوعُ هو نُورٌ، والنُّورُ يُبَدِّدُ الظَّلامَ، ويُظهِرُ الحَقَّ ويَبعَثُ الحَياة. خَارِجَ هذا كُلَّهِ سَوادٌ وبَاطِلٌ ومَوت. ويُكمِلُ يَسوعُ في المقطع الإنجيلي ذاته طارِحًا مَوضُوعَ السِّيادَةِ: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ"(مت ٢٤:٦).

شتّانَ بينَ سِيادَةِ الرَّبِّ وكُلِّ سِيادَةٍ أُخرى. فالأُولى سِيادَةُ المَحبَّةِ الّتي تُخَلِّصُ وتُحرِّرُ وتُحيي ولا تَستَعبِد، أمَّا الباقي فَتَبقى أَرضِيَّةً وتُرابِيَّةً مَهما سَمَت، فَكيفَ إن كانَت مَبنِيَّةً أصلاً على المَصلَحَةِ والاستِعبَاد؟.

عَينُ الإنسانِ كالرّادَار، تَتحرَّكُ بِمُوجَبِ مَا تَطلُبُ نفسُه. فلا رَيبَ أنَّ الرَّبَّ طَلَبَ أن يكونَ عَطشُنَا إلى المَلكُوتِ، إذ قالَ فَاطلُبُوا أوَّلاً ملكوتَ اللهِ وبِرَّهُ(مت ٣٣:٦).

نِهايةً، العَينُ البَسيطَةُ هيَ مِيزَةُ الإنسانِ البَسيطِ والمستنير الذهن، الخالِي مِنَ التَّعرُّجاتِ والالتِواءَاتِ والانحِرافَاتِ، ونَفسُهُ تُنشِدُ باستِقامَةِ: "المجدُ لكَ يا إلهَنا المَجدُ لَك".