لا شكّ أَنّ اللُّبنانيّ، معذورٌ في كُلّ ما قام به وما سيقوم... وفي كُلّ ما قاله وما سيقوله، ضمن معيارين اثنين: عدم التّطاول على كرامات النّاس، وعدم الحُكم عليهم من دون إِثباتٍ.

هو حرٌّ مثلاً أَن يُحمِّل كُلّ الطّاقم السّياسيّ الحاكم، منذ 1990 ولغاية اليوم، كُلّ المسؤوليّة في ما آلت إِليه الأَوضاع، وبخاصّةٍ أُولئك الّذين تمنّعوا عن حُضور ​جلسة الحوار​ في ​بعبدا​، للبحث في إِيجاد حلٍّ للوضع الكارثيّ الّذي وصلت إِليه البلاد، بسبب السّياسات الرّعناء التّي مورست وعلى كُلّ المستويات، منذ بداية التّسعينيّات ولغاية اليوم، مع التّشديد على نهب خيرات البلاد عبر ​الفساد​ وسوء الإِدارة. فهؤلاء المُتمنّعين عن الحُضور، قد سجّلوا مُخالفةً أُخرى، لا تقلّ أَهميّةً عن المُخالفات–الجرائم في حقّ الوطن، في محاولتهم "تبييض" فسادهم بالتّنصُّل مِن المسؤوليّة. كما وأَنّ هؤلاء، لو كانوا يحترمون الوطن أَوّلاً، ولو كانوا على استعدادٍ للتّضحية في سبيله، لقاء ما غرفوا من خيراته، ولو كان لديهم لناخبيهم اعتبار، وكرمى لعُيون مَن منحهم صوته في ​الانتخابات​، لكانوا تعالَوا عن مصالحهم الشّخصيّة، في سبيل مَن منحهُم يومًا صوته في الصّندوق، فيما هُم ينظرون إِليه الآن جائعًا مشرّدًا، وقد صلت به الأُمور إِلى أَن يبيع ثيابه ليحصُل على رغيفٍ.

حتّى أَنّ البعض منهم، مِن المشهود لهُم باللّعب على الكلام، قال: "نحن لا نُقاطع مقام رئاسة الجمهوريّة، بل أَصرّينا على عبارة عدم المُشاركة". وفي ذلك فذلكةٌ كلاميّة رخيصة، كما لو قال المُتّهم يومًا: "أَنا لم أقتل الضحيّة، وإنّما أَطبقتُ على أَنفاسها حتّى الموت"... فهل الوقت الآن، أَيُّها السّادة، يسمح بالمزيد من "التّشاطر" السّياسيّ؟...

فإِذا كان الهدف من مُقاطعة الحوار، التّنصُّل مِن الفساد، وفتح صفحةٍ جديدةٍ مِن خلال المواقف الهادفة إِلى خداع النّاس، والنّأْي بالنّفس عن المسؤوليّة وتبييض السّيرة السِّياسيّة المُلطّخة، فإِنّ ذلك لن يُجدي نفعًا، لأَنّ مُعقّمات الدُّنيا كلّها عاجزةٌ عن تلميع صورة أَحدٍ من اللُّصوص، في الذّاكرة الشّعبيّة الّتي لن ترحم هذه المرّة...

كما وأَنّ المواطن حرٌّ أَيضًا في أَن يلوم المسؤولين كلّهم، ومِن دون استثناء، فلا شيء يُبرّر ما أَضحينا فيه اليوم، وسلسلة التُّهم تبدأُ بمَن شهدوا –وهم في مواقع المسؤوليّة– على جرائم العصر الّتي تحصل في ​لبنان​، ولم يُحرّكوا ساكنًا... وتنتهي بالخيانة العظمى للوطن، والكُلّ إِذّاك قد أَخطأ ولو بنسبٍ مُتفاوتة... حتّى مَن يدير الدفّة السّياسيّة، إِذا كان عاجزًا عن "قلب الطّاولة" فحريٌّ به أَن ينضمّ إِلى الفُقراء، في ثورة الجياع، فيمسك بيده العصا ويستهدف بها تُجّار الهيكل.

هؤلاء التُّجّار الجُدد–المخضرمون احذروهم... إِنّهم مَن أَمّنوا لـِ"أَتباعهم" ربطة الخُبز ومنقوشة الصّعتر... وقد أَمّن آخرون لِـ"زُلمه" طحينًا يُوزّع عليهم بواسطة البلديّة، وطبعًا في البلديّات الحاوية أَكبر عددٍ من النّاخبين والأَصوات... كي يشتروا النّاس بربطة خُبزٍ، بعدما اشتروهم في الانتخابات سابقًا بمئة دولارٍ، حدًّا أَقصى رُبّما للصّوت الانتخابيّ، في المراكز ذات المعارك الانتخابيّة الطّاحنة... أَلهذه النّسبة ينسحب الانهيار الماليّ على سعر شراء ولاء المواطن؟... أَفلا يعلم النّاس أَنّ طحينهُم من عُصارة الفساد مُستخرَجًا، وهم باتوا يُتاجرون بوجعٍ في النّاس، إنّما هم مَن تسبّب به، وأَوصل إِليه، بفعل الفساد والسّرقات والسّمسرات؟... ولو كان الدّواء يأتي ممّن كان هو الدّاء، لسهلت المسألة، لكنّ الدّواء يأتي مسمومًا، وسمومه ستشمل كلّ جسد الوطن!.

إِليكُم الاستراتيجيّة الّتي يرمي إِليها هؤلاء: هي تبدأُ بمحاولة إِسقاط العهد، وذلك لا يُخفى على أَحدٍ من خلال حصر مسؤوليّة عقودٍ مِن الفساد بسنواتٍ أَربع. ومن ثمّ، وبعد الفوضى الخلاّقة، ترفض كُلّ فئةٍ مِن القاعدات الشّعبيّة المسّ بزعمائها، وعندئذٍ "تعود حليمة إِلى عادتها القديمة"، بعد خراب البصرة!.

ولكنّ هذا المُخطّط لن يمُرّ، ما دام بين الشّعب مَن يعي هذه المؤامرة الكُبرى الّتي تُحاك. وحسابات حقل هؤلاء لن تصحّ هذه المرّة في بيادرنا المزروعة حقدًا على هذه الطّبقة السّياسيّة. غير أَنّ النّاس ما زالت تُهملهم، علّ منهم مَن يريد أَن يُخلّص نفسه، قبل الهلاك، حيث يكون البُكاء وصريف الأَسنان، بعد فوات الأَوان. وحتّى ذلك الحين، يبقى مِن الضّروريّ أَلاّ ننتقل من "دلفة" ما نحن فيه، إِلى مزراب ما يُخطّط لها التُّجّار المُخضرمون–الجُدد.