منذ ان فتحت اعيننا على هذا ​العالم​ من ​لبنان​ البلد الذي وُلدنا فيه، وجدنا انفسنا رهينة في ايدي الدول الكبرى وسياساتها التي تمرجحنا فترفعنا حيناً وتنزلنا احياناً، وتغذّي دون ملل، نزعة الخلافات الطائفية والمذهبية لمنع اللبنانيين من التلاقي والتلاحم حول قضية واحدة اياً كانت اهميتها ومكانتها، حتى ولو كانت تتعلق بالمصير والوجود. هكذا اندلعت ​الحرب اللبنانية​ ودخل ​الفلسطينيون​ الى لبنان ومكثوا فيه، ولا يزالون حتى اليوم، ضمن جزر خاصة بهم، كما دخل الاسرائيلي فاحتل اراض لبنانية وانشأ ميليشيات تشكل خط دفاع اول عنه وعن مصالحه، قبل ان يستلم السوري دفّة ادارة البلد برعاية دولية، لينتهي الامر بالعودة الى الدائرة الاولى اي اعادة عقارب ​الساعة​ الى الوراء ودفع اللبنانيين الى التقاتل في ما بينهم، بتقديم "الغذاء" نفسه مع فارق اساسي هو ان الحرب تدار اقتصادياً ومالياً وفي ظل تواجد اكثر من مليوني نازح سوري على الارض اللبنانية.

هذا باختصار واقع الحال، وفي وقت اعلنت ​الادارة الاميركية​ الحالية انها تدير لعبة الحرب الاقتصادية على لبنان، وفي ظل تسليم العرب رقابهم وقرارهم الى الغرب بكل ما للكلمة من معنى، لاح بصيص امل في ان يتجه لبنان نحو الشرق، وليس بالطبع نحو ​سوريا​ و​ايران​، باعتبارهما ممراً نحو الدول الشرقية الاهم اي ​الصين​ و​روسيا​ وغيرهما. لا يختلف اثنان على ان الدول الشرقية لا تضاهي الغربية من حيث الرفاهية الاقتصادية والمالية او التحكم بهذه اللعبة، ولكن لا احد يمكنه ان ينكر وجودها وقوة مكانتها على الساحة، ما جعلها تصمد في وجه الحروب التي شنّت عليها وهي اليوم تقف في وجه الادارة الاميركية وغيرها ممن يرغب في ترويعها او تحطيمها. اللافت انه ما ان لاح هذا البصيص في الافق، حتى بدأ العمل على وأده في اقرب وقت ممكن، وهذا ما حصل بالفعل، والغريب في الامر ان مطلق النار على المشروع لم يقف ضده يوماً ولم يعلّق على من طرحه للسير به اكان ايجاباً ام سلباً، رغم ان خطه السياسي يفترض ان يكون من المحبذين والداعمين للتوجه الشرقي، فإذا به صاحب الطلقات النارية الاولى على المشروع، دون ان يعرف حتى امكانات نجاحه من فشله.

ولكن بغض النظر عن التوجه غرباً او شرقاً، كان بامكان لبنان في ما لو وقف شعبه وقفة واحدة، ان يغيّر في بعض المعادلات على غرار دول اخرى ومنها على سبيل المثال لا الحصر ​تركيا​ التي لم تتورّع عن التلويح والتهديد بورقة ​النازحين​ واللاجئين بعد ان سدّت امامها ابواب التعاون الغربي. ليست تركيا بالطبع مثالاً يحتذى في التعاطي، وهناك مآخذ كثيرة على ​سياسة​ رئيسها ​رجب طيب اردوغان​، ولكن هذا لا يمنع تقديرها لاستعمالها كل ما تملك من اوراق، في سبيل الدفاع عن وجودها وضمان استمرارية شعبها وابعاده عن ​الفقر​ والجوع والذلّ. لا يتطلب الامر الكثير من التفكير لمعرفة ان لبنان لن يقدر يوماً على لعب مثل هذا الدور، لان انقسام ابنائه كفيل باحباط ايّ محاولة لخلاصه، حتى ولو عنى ذلك خلاص اللبنانيين انفسهم. فإذا قرر قسم التهديد باعادة النازحين، تصدى له قسم آخر قبل ان تصل المسألة الى الدول الخارجية، واذا قرر البعض التوجه شرقاً تصدى له البعض الآخر مطالباً بالبقاء غرباً اياً تكن النتائج. لا يهدف هذا الكلام الى تبرئة احد من الزعماء والمسؤولين السياسيين، ولكنه كلام واقعي بعيد عن العاطفة والشعر، فليس هناك من موقف شعبي موحّد لان ​السياسة​ افسدت كل شيء، بما فيه عقول اللبنانيين.

لا يتعبنّ احد انتظار ما ستؤول اليه الامور شرقاً ام غرباً، لان لبنان رهينة السياسات الخارجية، ومن فاته ما قاله وزير ​الدولة​ الاماراتي للشؤون الخارجية ​انور قرقاش​ منذ ايام قليلة، ندعوه الى التمعّن به ومما جاء فيه: "ان ​الإمارات​ لن تقدّم الدعم المالي، إلا بالتنسيق مع الدول الأخرى"، اي بمعنى آخر ان العرب لن يُسمح لهم، حتى لو ارادوا، مساعدة لبنان ما لم يأتِ ​الضوء​ الأخضر من الدول الاخرى، فهل من يرغب في تفسير اعمق؟.