عُرفت الإمبراطوريّة الرومانيّة بتنظيمها الهائل، وكان المواطن الرومانيُّ يفتخر بهويّته الرومانيّة. الهيبة الكبرى كانت للجيش وقادته. لباس القادة في ​الجيش​ كان مميّزًا جدًّا ويترجم عظمة هذه الإمبراطوريّة وقوّتها. الخوذة التي تعلوها ريشة عالية، والبزّة المزخرفة والمطعّمة بالحديد المصقول والجلد، والسيف الرومانيّ المشهور، والرداء الأرجوانيّ الفضفاض والمتطاير خلف القائد وهو يسير.

فبمجرّد التواجد في حضور قائد رومانيّ يخال المرء أنّه أمام مجد روما كلّه، ويأتي إلى مسمعه صوتُ الأبواق الرومانيّة التي تصطفّ جنبًا إلى جنب، وتعزف الموسيقى التعظيميّة الكبرى، والخيّالة تمرّ واحدة تلو الأخرى في صف مهيب، والرايات تُرفع تمجيدًا للإمبراطور الرومانيّ الذي يطلّ مِن شرفته لابسًا ردائه الأبيض الحريريّ، ومحاطًا بمستشاريه وخدّامه وحرسه الخاصّ. وهو يقف ويحيّي طوابير العسكر التي تمرّ تحت منصّته المزيّنة بالأعلام والشعب يُهلّل له.

كلّ هذه العظمة الرومانيّة وجدت نفسها عاجزة، لا بل عارية مِن مجدها عند قائد المئة الذي أتى يطلب مِن الربّ أن يشفي غلامه، وهو يعلن جهارًا أنّه ليس مستحقًّا أن يدخل يسوعُ تحت سقف منزله.

حبّذا لو يتّعظ قادةٌ كثيرون وأصحابُ السُلطة مِن هذا المشهد.

فلو أردنا مثلًا تجسيد هذا الحدث لوجدنا تضادًّا ما بَعده تضادّ. قائدٌ مهيب مع مرافقيه المدجّجين ب​السلاح​، يستنجد بشخصٍ غير رومانيّ، ولا يزيّن منظرَه الخارجيَّ أيُّ شيء مِن الحُلل الرومانيّة، وكذلك مرافقوه.

فلو كان يسوع يطلب مِن قائد المئة لبدا الأمر طبيعيًّا جدًّا، أمّا ما جرى فهو غريبٌ حقًّا.

ولكن مهلًا، يسوع هو الإله المخلّص، هو صاحب السلطان الذي ليس مِن هذه الأرض.

ولكن، ترى هل أدرك هذا الرومانيّ حقيقةَ يسوع؟.

إذا كان الجوابُ بالنّفي، فما الذي دفع قائد الجند وصاحب السلطان الذي تهابه الناس، والذي يمثّل إمبراطوريّة لا تغيب عن أراضيها ​الشمس​، أن يستنجد ب​المسيح​ مِن أجل غلامه؟.

وأكثر مِن ذلك، عبّر هذا القائد عن ثقته الكاملة بالرّبّ، واعترف علنًا أن سلطان المخلّص يفوق سلطانه بكثير.

ولنلاحظ أمرًا هامًا جدًّا، فكلّ ما فعله القائد الرومانيّ لم يكن مِن أجل نفسه، بل كان مِن أجل غُلامه.

إنّها الرحمة. هذا هو الجواب. فهذه الرحمة الكبيرة المليئة بالمحبّة تجاه غُلامه جعلته يكتشف المخلّص، وبالتالي فُتِحت له أبواب الملكوت.

تَصَرُّف قائد المئة هذا استحقّ مديحَ الربّ، فأعلنه سبّاقًا على مَن يعتبرون أنفسهم أهل البيت وأصحاب الشريعة والناموس وحرّاس هيكل الربّ. فهؤلاء لقساوة قلوبهم سيُطرَحون في الظلمة الخارجيّة، ويسبقهم أناسٌ مِن خارج دارهم الذي بات شبيهًا بالقبور المكلّسة التي يسكنها العفن.

وإذا سألنا ما هو هذا العفن لأتانا الجواب: الكبرياء والأنانيّة والغطرسة وتأليه الذات.

لقد أتى الربّ ثائرًا على ​الإنسان​ الحرفيّ والجافّ الذي قتل الروح وألّه الحرف.

ألم يقل بولس الرسول: "الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي"(٢ كورنثوس ٦:٣)؟.

ولكي نفهم مليًّا هذه الآية، علينا قراءة ما سبقها.

فقد كان بولس يؤكّد لأهل كورنثوس أنّ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ "مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ"(٢ كورنثوس ٣:٣).

فبالرغم مِن سلطان هذا القائد، بقي قلبه مِن لحم، مع أنّ البطش كان مِن ميزة قادة الجنود.

أن يكون قلبنا مِن لحمٍ هو أن نكون في العهد الجديد الذي أعلنه الربّ في العهد القديم على لسان إرمياء النبي "أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا"(إرمياء ٣٣:٣١).

وهذا تمامًا ما يجعلنا نكون شعب الله، أي نحقّق بنوّتنا كما يريد الربّ أن تكون.

وهذا أيضًا ما قصده الربّ عندما قال تعقيبًا على تصرّف قائد المئة: "إنّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ"(متى ١١:٨).

هذا هو عهد ​الإنجيل​ الذي يريده الفادي أن يشرق في قلوبنا. عهد تتجلّى فيه الرحمة والمحبّة، ويملأه الإيمان والثقة بالربّ، ومفعم بالروح ​القدس​ الذي لا يجعله يجفّ ويتحجّر.

ألا انضممنا إليه؟.