عندما سجن الأتراك القس الإنجيلي الأميركي أندرو برونسون هبّت ​واشنطن​، ومارست ​عقوبات​ فورية على أنقره سبّبت لها خسائر إقتصادية كبيرة، إلى أن سارع الرئيس التركي ​رجب طيب اردوغان​ بإتخاذ قرار الإفراج عنه. وعندما أعلن الأتراك إعتماد كاتدرائية ​آيا صوفيا​ ​المسيحية​ مسجداً إسلامياً، إكتفى الأميركيون بإعلان أسفهم بشأن الخطوة الأردوغانية من دون إتخاذ أي إجراء بحق الدولة التركية، لا سياسياً ولا إقتصادياً. بينما كانت ​روسيا​ تعتبر ما جرى بحق آيا صوفيا بأنه شأن تركي داخلي.

بالطبع، ليست المسألة تركيّة داخلية، ولا الكاتدرائية المسيحية العريقة هي شأن عابر لا يستحق أكثر من جملة إنشائية مبنية على أسف، بل إن طبيعة ردود الفعل الدولية تدل على نوعية التعاطي الدولي، غرباً وشرقاً، مع أنقره التي تتمدد بكل إتجاه إقليمي، وتفرض نفوذا لها يستعيد مجدها في أيام ​الدولة العثمانية​. فهل هناك قبول عالمي بالدور التركي في الإقليم؟.

يبدو أن واشنطن تكرر تجربتها في ​تركيا​ كما فعلت مع ال​إسرائيل​يين. كان الأميركيون في خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي لا يتعاملون مع ​تل أبيب​ كقوة كما تعاملوا معها لاحقاً. لكن نتائج ​حرب 1967​ التي خاضها الإسرائيليون ضد العرب جعلت ​الولايات المتحدة الأميركية​ تضع إسرائيل في مرتبة الحليفة القوية التي يمكن الإعتماد عليها في ​الشرق الأوسط​. بعدها إزدادت عوامل الدعم والتبني الأميركي لتل أبيب، إلى حد بات فيه الإسرائيليون يعتبرون أنفسهم أنهم يعيشون اتحاداً عضوياً مع الأميركيين.

ما هو حاصل فعلياً أن الأميركيين لا يعولون الآن على أي دور عربي، وهم اغرقوا ​دول الخليج​ بحروب مفتوحة، كما الحال في ​اليمن​ و​ليبيا​. وحدها تركيا حاربت بأدوات عربية وإسلامية طيلة السنوات الماضية، وأقامت تحالفات متينة، وباتت القوة الإقليمية الأكثر قدرة، فتمددت من ​سوريا​ الى ليبيا، وفرضت مصالح في ​العراق​، وتسعى لفرض نفوذ في ​لبنان​، وأسست بنية صلبة في غزة، ونسجت علاقات مع ​باكستان​ و​أفغانستان​، وكل دول ستان، وتصرفت على أساس أنها وقطر في شراكة مستدامة، سلماً وحرباً، وتعاملت مع ​إيران​ كقوة وازنة تحنّ إلى تقاسم الأدوار الإقليمية مع الجبابرة الدوليين.

أمام هذا الواقع، سلّمت الولايات المتحدة الأميركية بأهمية وفاعلية الدور التركي الريادي، وهي تستعد لتُخلي له المنطقة بإنسحاب ​عسكري​ من سوريا والعراق، قد يحصل قبل موعد الإنتخابات الأميركية. فلماذا تثق الولايات المتّحدة بتركيا؟

تستند واشنطن على أن أنقره عضو في ​حلف شمال الأطلسي​، وتدير دولة ذات قدرات بشرية وعسكرية وصناعية هائلة، وهي عناصر تفتقدها ​الدول العربية​ مجتمعة. مما يعني أن تركيا تمنع تفرّد روسيا أو إيران في الإقليم، لا بل تستطيع أن تحدّ من نفوذ الإيرانيين في أي دولة إسلامية رغم التقارب التركي-الإيراني القائم في علاقات مميزة بين أنقره و​طهران​.

الأهم، أن تركيا تملأ فراغاً كان يمكن ان يملأه العرب في سوريا ولبنان وليبيا ومناطق أخرى. فلو أرسلت مصر في السنوات الماضية كتيبة عسكرية إلى سوريا للمشاركة الى جانب دمشق في الحرب ضد ​الإرهاب​، لكانت اكتسبت ​القاهرة​ شرعية عربية واسعة انطلاقا من سوريا. لكن المصريين تركوا الساحة السورية، بينما كانت دول الخليج تدعم المجموعات المسلحة التي صارت الآن في خدمة تركيا في شمال وشرق سوريا.

المسألة تتكرر في لبنان الآن، بعد إنسحاب دول الخليج من أي دور سياسي أو مالي في لبنان، مما رمى مجموعات سنّية في أحضان أنقره، وتحديداً في ​شمال لبنان​. الأمر يتكرر في بعض مناطق العراق ايضاً، فيما إستطاعت تركيا أن تسحب مقاتلين سوريين للقتال في ليبيا قُدّر عددهم ١٧ الف مسلّح يساندون "​الإخوان المسلمين​" في ليبيا في معركة ​حكومة​ ​طرابلس الغرب​ ضد جيش المشير حفتر.

على هذا الأساس، توحي المتغيرات الجيوسياسية أن تركيا تتمدد على حساب العرب لتزعّم المسلمين السنّة في مساحات واسعة. عندها سيكون الإقليم محكوماً بين ثلاثة عناصر: تركيا، إيران، وإسرائيل، في ظل نفوذ روسي واسع، وصيني وأميركي غير مباشر. بينما يتفرج العرب على خلافاتهم ويلتحقون بقوة إقليمية هنا، وقوى دولية هناك: مصر مشغولة ب​سد النهضة​ مع ​اثيوبيا​، و بحدودها مع ليبيا، وبمناطق في ​سيناء​ تحوي ناراً إرهابية تحت الرماد، وبحدودها مع غزة التي يحكمها "الإخوان المسلمون"-حلفاء تركيا.

السعودية​ و​الإمارات​ انهكتا بحرب اليمن من دون جدوى، بينما تزكزك تركيا بهما في كل ساحات الإقليم.

باقي دول العرب حصروا اهتماماتهم بساحاتهم في ظل أزمات أمنية ومالية واقتصادية ودينية وعرقية تهدد مجتمعاتهم بشكل دائم.