«أَمَّلْ هنالِكَ أَنَّى حَصَدْتَ

رؤوسَ الوَرَى وزهورَ الأَملْ

وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرابِ

وأَشْربتَهُ الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ

سيجرُفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ

ويأْكُلُكَ العَاصِفُ المشتَعِلْ»

(أبو القاسم الشابي، من قصيدة «الظالم المستبد»)

لقد شكّل صعود الدولة الإسلامية في إيران، وأفكار الإمام الخميني الثورية عام ١٩٧٩ الملهم الأساسي لمؤسس «حزب الله» الذي أعلن عن انطلاقه رسمياً عام ١٩٨٥، وإن كان قد بدأ نشاطه، تحت تسميات أخرى، على خلفية الإجتياح الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢.

ولا يخفى على أيّ من المتابعين الترابط الوثيق بين النظام الإيراني الناشىء وبين الحزب الناشىء، والذي أصبح ملتزماً كلياً مرجعية الولي الفقيه.

وقد جاء البيان التأسيسي لـ»حزب الله» واضحاً من خلال السعي إلى إقامة جمهورية إسلامية في لبنان مُشابهة ومتحالفة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أساس القواعد الفقهية والسياسية التي وضعها الإمام الخميني. والواقع الذي نشأ منذ ذلك الوقت هو أنّ «حزب الله» ليس حزباً تابعاً ينفّذ إرادة المرجعية السياسية الإيرانية كأداة في يد النظام الإيراني فحسب، بل انه، لاقتناعات عقائدية عميقة، أصبح جزءاً متكاملاً من التركيبة السياسية والفقهية والعسكرية الإيرانية. فبمقدار ما لإيران من تأثير على «حزب الله»، فلـ»حزب الله» تأثير وتفاعل على مختلف مستويات القرار الرسمي والفقهي وحتى الشعبي في إيران.

وهذا الواقع لا يُشابه في أي حال الواقع الذي كان سائداً بين الاتحاد السوفياتي وبين الأحزاب الشيوعية التي كانت تسير في فلكه على أساس أممية الاقتناعات الفكرية والسياسية. وقد دفع كثير من هذه الأحزاب أثمَن التضحيات على مذبح التسويات التي كان يجريها الإتحاد السوفياتي من وقت الى آخر مع بعض الأنظمة، وخصوصاً في ديكتاتوريات العالم الثالث.

أمّا بالنسبة الى «حزب الله»، فإنّ الرابط مع إيران يتعدى التوافق السياسي والعقائدي إلى الرابطة الروحية والاقتناعات التي تتعدى واقع الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى.

وهذا يعني عملياً أن لا مجال في المدى المنظور، وحتى في واقع التوازنات المستجدة إقليمياً، أن يتخلّى النظام الإيراني عن دعمه الكامل لـ»حزب الله» مادياً وعسكرياً، ولو على حساب الشعب الإيراني، حتى يتمكن من تحقيق أممية جديدة قائمة على مبدأ ولاية الفقيه، وهذا يُترجَم عملياً عن طريق إقامة دولة في لبنان مشابهة ومرتبطة بالجمهورية الإسلامية في إيران، وبذلك يكون لبنان فيه محطة وموقعاً على المتوسط، هو امتداد جغرافي لها كما صَرّح العشرات من المسؤولين الإيرانيين على مدى السنوات الماضية. والهدف الثاني هو اعتبار لبنان موقعاً عسكرياً متقدماً يسكن فيه فيلق من النخب العسكرية العقائدية، وذلك كجزء من المنظومة الدفاعية-الهجومية لمشروع ولاية الفقيه.

وعلى الرغم من ممارسة بعض التقيّة في خصوص هذا الموضوع، خصوصاً بعد دخول «حزب الله» في مرحلة أمينه العام السيد حسن نصرالله، منذ عام ١٩٩٢، كانت تصدر تصريحات تؤكد استمرار سعي هذا الحزب لإقامة الجمهورية الإسلامية بعد الوصول ولكن على أساس «شبه إجماع، يفوق ٩٠ % من المواطنين»، وهذا ما قاله نصرالله علناً في خطاب له، معتبراً أنّ واجبه الديني السعي لإقامة «دولة إسلامية» على النمط الخميني في لبنان.

وليس من الصعوبة الملاحظة أنّ محازبي هذا الحزب يعتبرون أنفسهم ينفّذون مشروعاً تتعدى مفاعيله وأهدافه الطبيعية الإنسانية لتصل إلى نسبة هذا المشروع إلى الرغبة الإلهية (هذا الحزب ليس حزباً آدمياً... إنه «حزب الله»). وهذا يعني عملياً أنّ كل الوسائل المستخدمة إنما توجّهها هذه الإرادة الإلهية.

ومما يعني أيضاً أنّ المعطيات الآدمية لن تؤثر في أي من الحالات على تَوجّه «حزب الله» إلى تحقيق هذه الأهداف. فمِن نافل القول إنّ هذه الأهداف تصبح صعبة التحقيق في دولة تعددية، مستقرّة اقتصادياً ومسيطرة في شكل كامل على قرارها العسكري والأمني، ومتمسّكة بالنظام الديموقراطي الحر كأساس للحكم فيها. لذا، فالعمل لتحقيق عكس هذه الأمور مطلوب في شكل دائم. أي كما يحدث اليوم بالذات في دولة يرفض إمساكها كما صرّح رئيس الحكومة، وربما كانت ذلّة لسان، أو على الأرجح ما نَطق به عقله الباطن.

هذه الأهداف تصبح ممكنة في استمرار التَسيّب في قرار الحرب والسلم، واستمرار وجود دولة ضمن دولة، واستمرار الإنفلات على الحدود، وغياب الاستقرار السياسي، والإمعان في الافقار، وازدياد هجرة النخَب الاقتصادية والعلمية والسياسية، والاستمرار في سياسة التيئيس والترهيب. إنّ بوادر هذه الهجرة أصبحت واضحة في تَوجّه مئات الألوف من اللبنانيين القادرين والمؤهلين للهجرة في أقرب فرصة ممكنة، بالطرق الشرعية. أمّا من هم أكثر جرأة وأقل خوفاً على حياتهم، سيغامرون بالركوب في البحر بما تَيسّر من وسائل. وهكذا تتكرر مأساة البحر المتوسط التي شهدناها في السنوات العشر الماضية، وكلها تقريباً، وليس بالمصادفة، لأسباب تتعلق بتدخل إيران في المنطقة.

ومن يظن أنّ طرح التوجّه شرقاً الذي أقرّه نصرالله عن اللبنانيين هو من بنات أفكاره، فقد خرج إلى العلن أخيراً مشروع يضع إيران في الخانة الصينية، من خلال مشروع تكامل اقتصادي عسكري، رهنت فيه إيران نفطها لخمسٍ وعشرين سنة للصين مقابل تجاهل العقوبات الأميركية، بينما أميركا منشغلة في جائحتها. ولا بد أنّ إغراء الصين بالمشروع مرتبط بحلم طريق الحرير الذي تروّج له منذ سنوات. وبالاستبانة من كلام نصرالله، يمكن الاستنتاج أنّ إيران أغرَت الصين أيضاً بمستعمراتها الممتدة عبر العراق وسوريا ولبنان إلى البحر. وهكذا يكتمل طوق السيطرة الكاملة على لبنان، فمِن جهة تهجر النخب، وتدفع من هو قادر على المواجهة إلى البحر، ومن يبقى لن يكون قادراً على المواجهة. حينها يصبح الشعب مطواعاً لدرجة تتحول معها الـ١۰ % المؤيدة للأهداف النهائية لـ»حزب الله» إلى أكثر من ٩٠ %... وهكذا تتحقق الأهداف «المقدسة»!