مجدّداً، اختار رئيس الحكومة حسّان دياب استخدام منبر ​مجلس الوزراء​ للتصويب على عددٍ من خصومه، واتّهامهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، بما فيها محاولة منع ​المجتمع الدولي​ من مساعدة لبنان بكلّ الوسائل والسبل المُتاحة لهم.

ومع أنّ دياب اعتبر أفعال هؤلاء "معيبة ومُخجِلة"، بل ذهب لحدّ وضعها في مصاف "الخيانة الوطنية"، والتي تستوجب عادةً المحاسبة القضائيّة، إلا أنّه حرص، على جري عادته منذ وصوله إلى السراي، على إبقائهم في خانة "المجهول".

قد يكون دياب مُحِقّاً فيما يذهب إليه، باعتبار أنّ المعارضة التي يواجهها "مسيَّسة" إلى حدٍّ بعيد، ولو أنّه لم يقدّم في المقابل النموذج الذي يستطيع فرض "هيبته" من خلاله، ولكن ألم يَحِن الوقت ليسمّي الأشياء بأسمائها، بعيداً عن تركها "حبراً على ورق" لا يقدّم ولا يؤخّر؟!.

"نظرية المؤامرة"؟!

"نحفر الصخر حتى نستطيع تخفيف حجم أزمة البلد، وفي المقابل، هناك أناس ما زالوا مصرّين على زيادة معاناة اللبنانيين. (...) معقول أن هناك مسؤولاً سياسياً عنده ضمير وطني ويحاول منع مساعدة لبنان بهذه الظروف؟ معقول هناك مسؤول حزبي كل همّه أن يعرقل أيّ مساعدة؟هذا معيب وأقرب إلى الخيانة الوطنية. ما سمعناه من أشقائنا في ​الدول العربية​ عن الاتصالات التي حصلت معهم من بعض السياسيين اللبنانيين مخجل".

للوهلة الأولى، تبدو هذه المقتطفات وكأنّها مأخوذة من خطابٍ قديمٍ لدياب، باعتبار أنّه يعتمد منذ أسابيع طويلة، على تكرار "السرديّة" نفسها، عبر اتهام خصومه، من دون تسميتهم، ربما وفق قاعدة أنّ "القاصي والداني يعرفانهم" كما يقول بعض المقرّبين منه، بالعمل على عرقلة حكومته، على حساب المصلحة الوطنيّة، وهي "فرضية" عزّزها أخيراً بالحديث عن ضغوطٍ يمارسها بعض السياسيّين اللبنانيين على "أصدقائهم" في الخارج لعرقلة أيّ مساعدةٍ للبنان، قد تُسجَّل في رصيد الحكومة الحاليّة.

يحلو للبعض القول إنّ دياب يطبّق على نفسه "نظرية المؤامرة"، التي فقدت "جوهرها" في المنطقة، بعدما ذاع صيتها قبل سنوات، وتحوّلت إلى مادة للتندّر في أحسن الأحوال، إلا أنّ الحقيقة أنّ جزءاً كبيراً ممّا يقوله دياب يقترب من الحقيقة، بحسب ما يقول داعموه، باعتبار أنّ المعارضة التي يواجهها في الداخل، والتي تُرجِمت "عزلة" خارجية منذ وصوله إلى السراي، لا تشبه المعارضة "البنّاءة" التي ادّعى بعض الأفرقاء اللجوء إليها، أو حتى تلك المبتكَرة لبنانيّاً بعنوان "معارضة على القطعة".

ويكفي برأي أصحاب هذا المنطق، رصد الكثير من المعارضين وهم "يتصدّون" للانطباعات الأولية التي تولدت في الأيام القليلة الماضية عن "استدارة" أو "ليونة" دوليّة في التعاطي مع لبنان، بل يجزمون بشيءٍ من "الغبطة" بأنّ كلّ ما يُحكى عن "ضخّ أموال" نتيجة الانفتاح العربيّ المُستجِدّ من قطر و​الكويت​ ومصر وغيرها لا يعدو كونه "أخباراً مزيّفة"، بدل أن يعملوا، بما يملكون من علاقات واتصالات، على مساندة الحكومة في مسعاها الحصول على الدعم، باعتبار أنّ حكومة دياب ليست المهدَّدة، بل الوطن بأسره، في حال بقيت الأمور تراوح مكانها "السوداويّ".

خياران لا ثالث لهما

ثمّة شيءٌ من الحقيقة في كلام دياب المتكرّر إذاً، أقلّه بحسب وجهة نظر المحسوبين عليه والمقرّبين منه، كما من الأحزاب الأساسيّة التي تشكّل "دعامة" حكومته، ومركز "إنعاشها"، وإبقائها على قيد ​الحياة​.

ولكن، هل تكون "المواجهة" بتكرار الخطاب نفسه، والأدبيّات نفسها، حول مجهولٍ "خائنٍ ومتواطئ"، ويسعى للعرقلة؟ وأيّ فائدةٍ متوخّاة من هذا الخطاب، الذي بات يثير "التململ" في نفوس داعمي الحكومة قبل معارضيها أصلاً؟.

الأكيد أنّ تكرار الكلام نفسه من جانب رئيس الحكومة، لا يعطيه "المصداقيّة" المطلوبة، بل هو على العكس من ذلك، وطالما أنّه يبقى في خانة "تجهيل الفاعل"، يبدو أقرب إلى "الاستعراض"، من دون أن يُسنَد إلى أيّ أدلّة حسّية أو عمليّة، وبالتالي يظهر كأنّه محاولة للقفز إلى الأمام، في محاولةٍ لتجاوز الاتّهامات التي تواجه الحكومة بالتقاعس والتقصير، وبالحدّ الأدنى عدم الوفاء بوعودها، وهي اتهاماتٌ مُحِقّة أيضاً في غالبها الأعمّ.

من هنا، قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ دياب بات أمام خياريْن لا ثالث لهما، في "منطق" مواجهة معارضيه، فإما يسمّي الأشياء بأسمائها، ويحدّد "الخونة" الذين يتحدّث عنهم ليلاً نهاراً، خصوصاً أنّه بات يتّهمهم بالخيانة الوطنية، وهي تهمةٌ لا يفترض، إن صحّت، أن تمرّ مرور الكرام، بل تستوجب العقاب الذي لا يمكن أن يغني عنه "منطق" عدم رغبة دياب بالدخول في "معارك" جديدة، ولا قوله الدائم إنّ الجميع يعرفون من يقصد بكلامه، إذ إنّ مسؤولياته، كرجل دولة، تتطلب منه تحديد المتّهَمين، ومساءلتهم من ضمن المؤسسات المعنيّة.

أما الخيار الثاني، والذي قد يكون أهمّ وأكثر إنتاجيّة، فيكمن في أن يقلع دياب عن هذا الأسلوب، إذا لم يكن راغباً في تسمية الأمور بمسمّياتها، والاتّجاه إلى الأساس الذي ينتظره ​اللبنانيون​ منه، وهو العمل بعيداً عن القول، علماً أنّها الصورة التي حاول دياب تكريسها عن نفسه عند وصوله إلى السراي، حين ابتعد عن الإطلالات الإعلاميّة، معطياً صورة نمطيّة مفادها أنّ أفعاله هي التي تعبّر عنه، قبل أن "تنقلب" المعطيات رأساً على عقب بعد مدّة وجيزة في السراي. ويفترض هذا الخيار من دياب تحمّل المسؤوليّة فوراً بفرض تطبيق الوعود التي أطلقها داخل حكومته، بعدما تحوّلت سريعاً إلى "نسخة"، منقّحة ربما، عن سائر الحكومات السابقة، ولا سيّما لجهة تكريس نهج "المحاصصة" وأخواتها في حقل "الفساد".

أين "النموذج"؟!

في المبدأ، تقتضي المسؤولية من كلّ مواطن تقديم إخبارٍ بحقّ أيّ "خائن" أو "متواطئ" يعمل ضدّ بلده، إذا كان عارفاً بـ "أجنداته"، فيتولى القضاء مسؤولياته في مساءلة المشتبه به، وملاحقه، وإصدار الحكم بحقّه باسم ​الشعب اللبناني​.

لا يقدّم رئيس ​الحكومة اللبنانية​ "النموذج" على هذا المستوى، فهو تحدّث في جلسة مجلس الوزراء عن "خيانة وطنية" لأشخاصٍ يرفض تسميتهم، ما يمكن أن يرقى إلى مستوى "التستّر" على المجرمين في العرف الجنائيّ، إلا إذا كان كلامه يندرج في خانة "الاستغلال السياسيّ" فقط لا غير.

لعلّه حان الوقت ليبادر دياب إلى تغيير الأسلوب الخطابيّ الذي يعتمده، عبر تسمية الأمور إذا ما كانت لديه المعطيات الحسّية كما يقول، ولكن قبل ذلك، عبر إيلاء الأولوية للإنتاجيّة التي باتت حكومته تفتقدها، هي التي تبقى بعض قراراتها بلا تنفيذ، فيما تُنتقَد قراراتها الأخرى من داخل بيتها قبل الخارج...