لم يكن طرح البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بشأن الحياد فكرة جديدة تطلّ على ال​لبنان​يين. سبق وأن درست لجان لبنانية فكرة الحياد منذ خمسينيات القرن الماضي، ولم تتوصل الى نتيجة. ثم تكرر الطرح مرات عدة في العقود الماضية، من دون الوصول الى إتفاق لبناني بشأنه. فما هو التبدّل الجوهري الذي سيفرض الفكرة حلاً لبنانياً وسط نزاع إقليمي ودولي مفتوح؟.

ينطلق البطريرك الماروني من نيّة وطنية صافية، لإبعاد اللبنانيين عن الأزمات القاتلة. لكن الراعي يعرف أن الرعيّة اللبنانية مشتّتة القرار، نتيجة خلافات وتباينات جوهرية تبدأ بطبيعة النظام، ولا تنتهي عند القضايا القومية والإرتباطات الخارجية: لماذا يترأس الكاردينال نفسه قداساً من أجل ​فرنسا​ كلّ عام؟ رغم رمزيته المعنوية، هل تقدر ​الكنيسة المارونية​ أن تستغني عنه؟ كذلك تفعل باقي المكونات اللبنانية التي تربطها بباقي عواصم ​العالم​ روابط عقائدية، دينية وطوائفية ومذهبية وثقافية. قد يكون القدّاس، إضافة إلى أهدافه الدينية النبيلة، فعل تواصل إيجابي للبلد. وهو إطار تنطلق من شبيهه مكونات أخرى تصب غاياتها في ذات الأُطر العقائدية.

إذا كان الحياد فكرة وطنية، فإن قواعده السليمة ترتكز على مدنية الدولة، التي تجعل اللبنانيين ينتمون جميعهم لوطن واحد، لا لطوائف مشتّتة التحالفات في شتى إتجاهات الأرض. فلماذا لا يتم طرح ​الدولة المدنية​ أولاً، لتجر معها الحياد الإيجابي على أساس مصلحة الدولة، أو مصلحة ​الأمن​ القومي؟.

ثانياً، إنّ لبنان محكوم بالجغرافيا. لا يستطيع تغيير حدوده القائمة بثلاثة إتجاهات: بحر في الغرب، ​إسرائيل​ في ​الجنوب​، ​سوريا​ في ​الشمال​ والشرق. وبما أن العداء قائم بين لبنان وإسرائيل تاريخياً، ولاسباب جوهرية عظمى منذ تحركت العصابات الصهيونية قبل تأسيس دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، ومارست عدوانية وتهجيراً وقتلاً بحق اللبنانيين، فلم يبق أمام لبنان الا سوريا والبحر. وفي حال طبّق لبنان شروط الحياد، فهل تحيد الجغرافيا عنه؟ هل هو رمى نفسه في الجغرافيا، أم أن تداعيات الجغرافيا سلبية أم إيجابية موجودة داخل لبنان؟ الجواب معروف: لا يمكن تجاوز الجغرافيا، بدليل ما حصل في التاريخ البعيد والقريب.

بالمقابل، لا يبدو أن معارضي فكرة الحياد يريدون مجابهة طرح البطريرك الراعي. لا بل تتحدّث المعلومات عن أن القوى الفاعلة تحترم مكانة ​بكركي​، وهي ستتحاور معها عند طرح المشروع بتفاصيله على طاولة ​النقاش​ بعيداً من الإعلام. فهل سيشكّل الراعي لجنة لطرح الفكرة على القوى الفاعلة، بهدوء وبعيداً عن عرض العضلات السياسية؟.

يرجّح مطّلعون أن يكون موضوع الحياد طُرح مقابل فكرة التوجه شرقاً، مما يضع الفكرتين في مساحات البحث السياسي لإستخلاص روحية المصلحة الوطنية في كلا الطرحين.

لكن، يتزامن الحديث اللبناني مع حراك عراقي: تسعى ​بغداد​ للعب دور الوسيط بين الإيرانيين والأميركيين، وبين الخليجيين والإيرانيين، لكن ضغوطاً خارجية تمارس على ​العراق​ لإحراج ​طهران​. ويسوّق عراقيون لكلام يقول إن هناك معركة بين "الدولة والساحات". المقصود: الدولة المحايدة عن الساحات الخارجية. فهل هناك محرّكات واحدة لدفع البلدين نحو الإبتعاد عن ​الجمهورية​ الإسلامية وحلفائها؟.

الجواب غير واضح حتى الآن، ومن الظلم الحُكم على أي طرح قبل نقاش الأبعاد والأهداف. مما يرجّح أن يخف الوهج الإعلامي بشأنه، ليأخذ طريقه الى نقاش هادئ وعقلاني. قد يكون النقاش موجوداً، والنهاية تتشابه بين فكرة سياسية: الحياد، وبند دستوري: الدولة المدنية.