في المُتحَفِ الوَطنيّ اللبنانيّ لوحةٌ رُخاميّةٌ لأحدِ المَدافِنِ، اكتشفَها مُؤسِّسُ المُتحَفِ الوَطنيّ "المِير مُوريس شهاب" في صور، نُقِشَ عليها صليبٌ مِن كلِّ جِهَة، وفي الوَسط رَسمٌ للسيِّدة العَذراء، وكِتابةٌ تُؤكِّدُ أنّها لِمَدفَنٍ يَعود إلى العام ٤٤٠م أي إلى الحقبة الرُّوميّة.

الهدفُ مِن ذِكرِ هذهِ اللوحَةِ هُو والدةُ الإله، بحَيثُ يبدأ الصومُ المُخَصَّصُ للسيِّدةِ العَذراء في اليومِ الأَوَّلِ مِن شهر آب، ويُختَتَمُ في اليومِ الخَامِس عَشر منه بِقُدَّاسِ عيدِ رُقادِ وَالِدَةِ الإلَه. عِلمًا أنَّ شهرَ آب مُكَرَّسٌ بكامِلِه لِوالِدَةِ الإله، وآخِرُ يومٍ فيهِ مُرتَبِطٌ بِعِيدِ وضع زَنَّارِ والدَةِ الإله.

في الكَنيسَةِ الأُرثوذُكسيَّةِ، تبدأ السَّنةُ الليتُورجِيَّةُ في الأوّلِ مِن شهر أيلول. وأوَّلُ عيدٍ فيها "ميلادُ والِدَةِ الإله" في ٨ أيلول، وآخرُ عيدٍ فيها "رقادُ والدة الإله" في ١٥ آب. إذًا نحن نفتَتِحُ سنتَنا الطقسيَّةَ بعيدٍ لوالِدَةِ الإله، ونختَتِمُها بِعيدٍ لها أيضًا. ويكونُ وَسَطَ السَّنةِ عيدُ الأَعيادِ ومَوسِمُ المَواسم، وهو عيدُ ​الفصح​ المجيد العظيم، محوَر الأعياد كلّها. وهذا له معنًى كبيرٌ جدًّا. إنَّها دَورَةٌ لِيتُورجِيَّةٌ قِيامِيَّة.

فَلنُلاحِظ أمرًا هامًّا، اللهُ خَلَقَ العَالَمَ و​الإنسان​َ في سِتَّةِ أيَّامٍ، واستَراحَ في اليَومِ السَّابِع. هذا كان في العَهدِ القَديم. أمَّا في العَهدِ الجَديد، فَيأتي اليَومُ الثَّامنُ الّذي افتتَحَهُ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ بِقِيامَتِهِ، لِيكونَ يَومَ تَجديدِ البَشرِيَّةِ بَعدَ أن سَقَطَتْ قَدِيمًا في الخَطِيئة، فأُظلِمَت صُورَةُ اللهِ في الإنسان.

فمَن وُلِدَ جَديدًا مَعَ يَسوعَ، وعَاشَ كَلِمَةَ اللهِ في دَورَةِ حَياتِه، لا يَمُوتُ عِندمَا تَنتَهي أيَّامُهُ الأَرضيَّةُ، بَل يَرقُدُ بِسَلامِ النَّفس، ويُقِيمُهُ الرَّبُّ ويَنقُلُه إلَيهِ ويَضُمُّهُ إلى صَدرِهِ، وتُفتَحُ لَهُ أبوابُ السَّموات، وتَستَقبِلُهُ المَلائِكَةُ، تَمامًا كما حَصَلَ مَعَ السَّيِّدَةِ العَذراءِ.

هذا الأَمرُ، أَدرَكتْهُ الجَماعَاتُ المَسيحِيَّةُ مُنذُ البِدَايَة، بِحَيثُ أَضحتْ مَريمُ مِثالًا للمُؤمِنِينَ، إذ هِيَ بَشرٌ مِثلَنا تَمامًا. فَنجِدُ جِدارِيّاتٍ وفُسَيفَساءَ ومَخطُوطَاتٍ وصَلواتٍ لِوالِدَةِ الإلهِ مُنذُ القُرونِ الأُولى لِلمَسيحِيَّة. كيف لا وهِيَ الشَّفيعَةُ الحَارَّةُ الّتي لم تَطلُبْ يَومًا شَيئًا لِنَفسِها.

إنَّ موضُوعَ تَكريمِ مَريَمَ، وَطَلَبِ شَفاعَتِها، هو مَوضُوعٌ جَوهَرِيٌّ مُنبَثِقٌ مِنَ التَّدبيرِ الإلَهيّ لِلبَشَرِيَّةِ كَكُلّ، ومِن رَحِمِ إيمانِ المُؤمنينَ. هُناكَ كِتابُ صَلاةٍ جيورجيLectionnare) ) يعودُ إلى القَرنِ الثَّامِن، يَشهَدُ بِوُضوحٍ على وُجُودِ عِيدٍ مَريَمِيٍّ عَظيمٍ، كان يُوقَّرُ بِخدمةٍ لِيتُورجيَّةٍ تُقامُ في الخَامسَ عشرَ من شهرِ آب في أورشليم، وذلك في القرن السّادس – السّابع ميلادي، بِالإضافَةِ إلى احتفَالاتٍ لِيتُورجِيَّةٍ كبيرةٍ في الجسثمانية، وتَحدِيدًا في مكانٍ قِيلَ إنَّه قبرُ ​العذراء​ مريم، حَيثُ أشادت الامبراطورةُ أثيناييس- إيفذوكسيا كنيسةً عام ٤٦٠م.

ترى ماذا تُعَلِّمُنا العَذراء؟

١-حُريَّةُ القَرار: عندَما سَألَها الملاكُ جِبرائيلُ في البِشارة، أجابت "نَعم" بِمِلءِ حُرِّيتِها وإرادَتِها.

٢-الإصغاءُ الكامِلُ لِكَلِمَةِ الله: هُناكَ تَعبيرٌ يُقالُ عن والدة الإله أنَّها كانت "تَحتَ السَّمَع"، وهي تَرجَمَةٌ لِلكلِمَةِ اليُونَانِيَّة ἀκουστικός acoustique بِمَعنى أنّها جاهزةٌ دائمًا للسَّمع.

٣-التَّسليمُ الكُليُّ لله: ألَم تَقُلْ العذراء مريم: "هُوَذا أَنا أَمَةُ الرَّبِّ، لِيَكُنْ لي بحَسَبِ قَولِكَ"؟(لوقا ٣٨:١).

٤-التَّواضُعُ الأقصى: جَذَبَتِ مريمُ اللهَ ليَتَجَسَّدَ مِنها، وقد سبَّحَتْهُ قائِلَةً: "هَا قد نَظَرَ اللهُ إلى اتِّضاعِ أَمَتِه"(لوقا ٤٨:١).

٥-الخِدمةُ ومَحبَّةُ الآخرين: أوّلُ ما فَعلَتْهُ مريمُ بَعدَ البِشارَةِ، أنَّها ذهبَت إلى نَسيبَتِها أليصَابَات لتَخدِمَها. فمُستَحيلٌ أن يَسكُنَ المَسيحُ في الإنسانِ، وأن يَمتَلِئَ المَرءُ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ وفي الوَقتِ نفسِه لا يُحِبُّ الآخَر.

٦-الأُمومَةُ الفَاضِلة: رائعٌ جِدًّا كَيفَ كانت مريم تحضُنُ وَلَدَها الوَحيدَ يَسوعَ، وكيف كانَت تَسيرُ مَعَ خَطيبِهَا يُوسُفَ بِمَخافَةِ الله .

٧-الصَّلاةُ والصَّمتُ: كانت مريمُ في حَالَةِ صَلاةٍ دَائِمَة، تَضَعُ كُلَّ شَيءٍ في قَلبِها النَّابِضِ بِعِشقِهَا لِخَالِقِها. لم تَكُن تَتَذَمَّرُ، وهِيَ الّتي لم تَعرفْ رَاحَةً مُنذُ بِشارَتِها، إلّا أنَّها كَانت تَستَريحُ في قَلبِ اللهِ، وكانَ اللهُ يَستَريحُ في قَلبِها.

ولَو أردْنا تَعدادَ مَزايَا العذراء مريم لَمَا وَصلْنا إلى نهاية، فمريَمُ العَذراءُ سِرٌّ عَظيمٌ يَفُوقُ العَقلَ البَشرِيَّ. ومُصطَلَحُ "والِدَةُ الإله" بِالتَّحديدِ يُشيرُ إلى الحَدَثِ الأَهَمِّ في البَشَرِيَّةِ جَمْعاءَ، ألا وهو اتِّحادُ الطَّبيعَةِ الإِلهِيَّةِ بالطَّبيعَةِ البَشَرِيَّةِ، أي التَّجسُّدُ الإلَهيّ. صحيحٌ أنَّه ثُبِّتَ في المَجمَعِ المَسكُونِي الثَّالِث الّذي انعَقدَ في أفسس عام ٤٣١م، إلّا أنَّه جَوهَرُ إيمانِنا.

ألا يَذكُرُ القِسمُ الأوَّلُ مِن دُستورِ الإيمانِ، الّذي نُصَّ في المَجمَعِ المَسكونِيّ الأوَّل في نيقية عام ٣٢٥م، أنَّ "ابنَ الله تجسَّدَ مِن الرُّوحِ القُدُسِ ومِن مَريَمَ العَذرَاء"؟.

فالرَّبُّ المَولُودُ مِنها بِالطَّبيعَةِ البَشريَّةِ، لم يَنفَصِلْ لَحظةً عن طَبيعَتِهِ الإلَهِيَّةِ الوَاحِدَةِ مَعَ الآبِ في الجَوهَر.

كَذلِكَ يَجِبُ ألا يَغِيبَ عن فِكرِنَا ما قالَتْهُ أليصَاباتُ لِوَالِدَةِ الإلهِ، عندَمَا أتَتِ العذراءُ إلَيها: "فمِن أين لي هذا أن تأتيَ أمُّ رَبِّي إليّ"(لوقا٤٣:١).

وبِالرُّغمِ مِن كُلِّ هذا، تُحافِظُ الكَنيسَةُ على التَّمايُزِ بينَ والِدَةِ الإلهِ والإلهِ ذاتِه، فَلها التَّكريمُ والشَّفاعَةُ، ولَهُ العِبادَةُ والخَلاص.

فلنُرَنِّمْ جميعُنَا بِصَوتٍ واحِدٍ: لِوالِدَةِ الإلهِ وَأُمِّ النُّورِ بِالتَّسابِيحِ نُكَرِّمُ مُعَظِّمِين.