بيروت​ مدينة منكوبة. هكذا، انتهى، بعيون البعض، "​زلزال​" ال​انفجار​ غير المسبوق في ​تاريخ لبنان​، والذي أطلق عليه كثيرون، ممّن عاينوه وعاشوا لحظته "الكارثية"، لقب "​هيروشيما​ بيروت"، لكمّ الأضرار والخسائر التي أحدثها، والتي لم تظهر بصورتها الكاملة بعد.

رغم ذلك، بقي "الضياع" سيّد الموقف لساعات. لم "يستوعب" ​اللبنانيون​، ومعهم ​العالم​ أجمع، ما حصل، معتقدين أنّه مجرّد "كابوس" سيستفيقون منه سريعاً، فيما لم يتردّد بعض المسؤولين في ذرف "الدموع" على هول "الكارثة" التي لم تترك حجراً على حجر.

ومع بدء تكشّف خيوط ما حصل، وتقدّم فرضيّة "الإهمال" على ما عداها، بدأ المسؤولون بالتلويح بالمحاسبة، محاسبةٌ قد لا تكون أكثر من "شعارٍ" يرفعونه في لحظةٍ آنيّة، لكنّها لا يمكن أن تبقى كذلك بعدما أضافت الطبقة السياسية "الإجرام" إلى سلسلة "مآثرها" التي لا تنتهي...

"سيناريوهات كارثيّة"

هي "كارثة وطنية". توصيفٌ أجمع عليه معظم اللبنانيّين، لكنّه لا يكفي لوصف حقيقة ما حصل في ​مدينة بيروت​، التي لم تشهد في تاريخها ما شهدته في تلك اللحظة "المشؤومة" في الرابع من آب.

كثيرةٌ هي "التكهّنات" التي نُسِجت في اللحظات الأولى، في محاولةٍ لفهم ما حصل، بينها "سيناريو" الاعتداء الإرهابي الذي ربطه البعض بالحكم المرتقب في جريمة اغتيال رئيس ​الحكومة​ الأسبق ​رفيق الحريري​، ولعلّ ذلك هو ما دفع كثيرين إلى لفت الأنظار في البدء إلى "​بيت الوسط​"، وكأنّ الهجوم يستهدف رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​.

سريعاً، تبيّنت عدم صحّة هذا السيناريو، ليبدأ الحديث عن سيناريو بدا "فاقداً للمنطق" حول انفجار "مفرقعات" في ​مرفأ بيروت​، توازياً مع "سيناريو" آخر لقي رواجاً أكبر، يتعلّق بقصفٍ إسرائيليّ قيل إنّه استهدف مخزن سلاح لـ"​حزب الله​"، وهو ما ربطه كثيرون بطيرانٍ إسرائيليّ رُصِد في الأجواء قبل الانفجار، قبل أن ينفي الإسرائيليّون أنفسهم مثل هذا السيناريو، ويؤكد المعنيّون أنّ "حزب الله" لا يمكن أن يخزّن أسلحته في منطقةٍ "مكشوفةٍ" كالمرفأ.

لكن كلّ هذه "السيناريوهات" بدت بمثابة "رحمة" أمام السيناريو "الفضائحيّ"، لا "الكارثيّ" فحسب، الذي تبنّته ​السلطة​، ولو أنّها أعلنت فتح "​تحقيق​" يفترض أن يفضي إلى نتائج خلال خمسة أيّام، وهو "سيناريو" يتحدّث عن انفجار كمية كبيرة من مادة نترات الأمونيوم كانت مخزّنة في المرفأ منذ العام 2014، بعد مصادرتها من ​سفينة​ وصلت إلى مرفأ بيروت لتحمل جرّافتين إلى ​زامبيا​.

من يحاسب؟!

إزاء هوْل هذا السيناريو غير الواقعيّ ولا المنطقيّ، وجدت السلطة نفسها في موقفٍ لا تُحسَد عليه، ولا يكفي معه إعلان بيروت مدينة منكوبة، ولا فرض ​حالة الطوارئ​، ولا الحداد الوطنيّ والإقفال، ولا "تسوّل" المساعدات من دول العالم، ولا بطبيعة الحال، إطلاق الوعود ورفع الشعارات، وحتى ذرف الدموع التي لا تغني ولا تُسمِن من جوع.

أضافت هذه السلطة "جريمة" جديدة إلى كمّ "جرائمها" التي لم تعد تُحصى ولا تُعَدّ. لم يعد الأمر محصوراً بفسادٍ متفشٍّ، ومحاصصةٍ عابرة للمناصب، وأموالٍ منهوبةٍ من هنا وهناك، ولا بمسؤوليتها عن ​الأزمة​ الاقتصادية والاجتماعية التي يتخبّط فيها اللبنانيون، الذين لم يعودوا عاطلين عن العمل فحسب، بل "ممنوعين" من الاستفادة من "جنى عمرهم" الذي أودعوه في ​المصارف​، فتحوّل إلى مجرّد "أرقام" غير قابلة للصرف.

بعد "مجزرة" بيروت، أصبح هناك دماء بريئة في رقبة هذه الطبقة السياسيّة، وباتت المسؤوليّة مُضاعَفة. لا يكفي أن يقول رئيسا ​الجمهورية​ والحكومة إنّ هناك "من سيدفع الثمن"، ولا حتى أن يتمّ العثور ربما بعد خمسة أيام على "كبش فداء" يضحّي بنفسه، كرمى لـ "الشركاء". المطلوب محاسَبة حقيقيّة لكلّ المتورّطين بـ"الفضيحة"، من رأس الهرم قبل أسفله، بعكس ما درجت عليه العادة، ومن دون الرهان على الوقت الكفيل بنسيان ما حدث، كما درجت العادة اليوم.

لن تعيد مثل هذه المحاسبة عقارب ​الساعة​، أو الموت، إلى الوراء، ولن ينسى اللبنانيون تلك اللحظة التاريخية "المنحوسة" التي عايشوها من دون أن يدركوا ما يحصل، لكنها قد تشفي غليل البعض، ولو بشكلٍ نسبيّ، ولو أنّ ما حصل يفترض أن يكون حافزاً لإحياء "ثورةٍ" حقيقيّة هذه المرّة على الطبقة السياسيّة برمّتها، "ثورة" لم يعد الانقسام حولها خياراً مطروحاً، لأنّ من كان بلا ضمير أو تلطّخت أيديه بالدماء لا يجوز أن يجد من "يبرّئه"، أو أن يعيد "مبايعته" من جديد في انتخاباتٍ معلَّبة، مبكرة أو متأخّرة.

"الوحدة المطلوبة"

في كلّ الأزمات، يخرج من يقول إنّ "الوحدة الوطنية" مطلوبة للمواجهة، وإنّها "صمّام الأمان" لإنقاذ البلاد من الأسوأ الذي قد يلوح في الأفق.

لا شكّ أنّ ذلك صحيح، انطلاقاً من أنّ "في الاتّحاد قوة"، وأنّ فنّ إدارة الأزمات يتطّلب الابتعاد عن كلّ عناصر الانقسام، لكنّ الأصحّ منه، أنّ هذه "الوحدة" لا يجوز أن تكون حول فاسدين ومهملين ومجرمين يتحمّلون المسؤولية.

"الوحدة" المطلوبة في هذه الحال، هي "وحدة الشعب"، وقد تكرّست سريعاً بعد "الكارثة"، حين تطوّع اللبنانيون أنفسهم لمساعدة بعضهم بعضاً بكلّ الوسائل المُتاحة، وفي بعض الأحيان غير المُتاحة حتّى، انطلاقاً من الحسّ الوطنيّ بالمسؤولية والمشاركة.

لكنّ هذه "الوحدة" يجب أن تكون في وجه طبقةٍ سياسيّةٍ كاملة متكاملة، لا شكّ أنّ الحكومة الحاليّة جزءٌ أساسيّ منها، وهي التي تكرّس يوماً بعد يوم نهج ​الفساد​ والتقصير والتقاعس، لكنّ "المستغلّين" من الباكين على الأطلال وطالبي تعليق المشانق، فيها أيضاً، وهم الذين ارتكبوا ما ارتكبوه بحقّ الوطن، طيلة عقودٍ لا يريدون أن تنتهي...