منذ اللحظات الأولى للزلزال الذي ضرب العاصمة ​بيروت​، نتيجة الانفجار المدمر الذي حصل في المرفأ، برز في ​لبنان​ مشهدان يستحقان التوقف عندهما: الأول مظهر شعبي مشرق، أما الثاني فهو مشهد سياسي مخزٍ يتفاعل يوماً بعد آخر، نتيجة السعي إلى استغلال الحادثة على قاعدة الربح والخسارة.

في هذا الاطار، من الضروري التركيز على المشهد الأول، الذي أظهر أن تضامن اللبنانيين مع بعضهم البعض على المستوى الشعبي، حيث لم تتأخر الدعوات إلى التبرّع بالدم للمساعدة في اسعاف الجرحى، أو تقديم المساعدات التي يحتاج لها من تضررت منازلهم أو أعمالهم، بالإضافة إلى فتح المنازل أمام الذين فقدوا أي مأوى لهم، في حين لم يتمّ التبليغ عن محاولات سرقة حصلت في محيط الانفجار، ولا سيّما في المنازل التّي تكسّرت او فُتِحت جرّاء عصف الانفجار.

هذا المشهد، يؤكد مرة جديدة أن اللبنانيين في أوقات الشدة لا يمكن تفريقهم عن بعضهم البعض، بل على العكس من ذلك أبوابهم مفتوحة لتضميد جراحهم من دون التفكير بأيّ خلفيات سياسية أو طائفية، على عكس ما تحاول القوى السياسية إيهامهم عبر زرع المخاوف في قلوبهم من بعضهم البعض، الأمر الذي يجب ​البناء​ عليه لمنع تلك القوى من ممارسة هوايتها المفضّلة، أيّ الاستثمار على الكوارث، فهي المسؤولة، أولاً وأخيراً، عن النظام القاتل الذي تغذّيه بالفتن و​الفساد​.

على هذا الصعيد، ينبغي التأكيد بأنّ ما حصل ليس حدثاً فريداً من نوعه، بل تكرر على مدى السنوات الماضية، ويمكن التذكير، على سبيل المثال فقط، بما حصل عند اندلاع الحرائق في منطقة المشرف في العام الماضي، حيث تكرّر المشهد نفسه شعبياً، في حين كانت القوى السّياسية نفسها تسعى إلى استغلال الحادث، بالرغم من أنها عجزت عن تأمين ما يحول دون تكرار الكارثة من جديد.

في المشهد الثاني، لم تتأخر القوى السياسية عن السعي إلى استغلال الحادثة، عبر توجيه الاتهامات التي لا تستند إلى دليل، لا بل بعضها بدأ يعمل أن تكون الكارثة بوابة الانتقال نحو مشهد سياسي جديد، من خلال الدعوات إلى اسقاط ​الحكومة​ أو ​رئيس الجمهورية​ العماد ​ميشال عون​ أو المطالبة بلجنة ​تحقيق​ دولية، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما حصل بعد اغتيال رئيس الحكومة الراحل ​رفيق الحريري​.

ما تقدّم، يعني أن تلك القوى تريد اليوم العودة بالبلاد إلى مشهد الانقسام بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار، الذي دفع ​اللبنانيون​ ولا يزالون ثمنه غالياً على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي يثبت مرة جديدة أنها لا تستطيع الاستمرار إلا على قاعدة الاستثمار في جِراح المواطنين، وليس لديها ما تقدّمه لانقاذ البلاد من الكارثة التي وقعت فيها.

هذه القوى، ينبغي أن تدرك، بأسرع وقت ممكن، بأن اللبنانيين لا يريدون المشهد الثاني بأيّ شكل من الأشكال، بل يريدون البناء على المشهد الأول لفتح مرحلة سياسية جديدة، لا يكون مثل هؤلاء فيها، بعد أن دفعوا ثمن وجودهم أكثر من مرة، من الحرب التي كان أمراؤها إلى السلم الذين عاثوا فساداً خلاله، وبالتالي لا يجب أن يُمنَحوا من جديد فرصة سرقتهم أو إدخالهم في نزاعات دمويّة تعيدهم إلى الواجهة.