في خضّم المشاكل التي يُعاني منها ​لبنان​، من ​الأزمة​ الإقتصادية والماليّة، والصُعوبات المَعيشيّة الحياتيّة، مُرورًا بكارثة إنفجار المرفأ، وُصولاً إلى إرتدادات حُكم المَحكمة الدَوليّة الخاصة بجريمة إغتيال رئيس الوزراء الراحل ​رفيق الحريري​، يَعتبر الكثيرون أنّ إصرار البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بُطرس ​الراعي​ على طرح الحياد(1)، يتسبّب بمُشكلة إضافية، لبنان في غنى عنها! في المُقابل، يَعتبر المؤيّدون لدعوة ​بكركي​ إلى الحياد، أنّ تطبيقه يُمثّل مَدخلاً أساسيًا لبدء خروج لبنان من قعر الهاوية التي وصل إليها خلال ​السنة​ الماضية! فلماذا أصرّ البطريرك الراعي على حمل لواء ما أسماه "الحياد الناشط"، والترويج له، على الرغم من الإنتقادات والإعتراضات الداخليّة؟.

أوّلاً: حرصت بكركي على منع تسييس مَطلبها، ومنع إدخاله في لعبة التجاذبات والمَحاور الداخليّة، وأعادت إستلام دفّة الترويج له بكل فعاليّة وإندفاع من قبلها، حتى لا يُفسّر أنّه مطلب ضيّق أو لصالح حزب لبناني ضُدّ حزب لبناني آخر، بعد تسجيل مُحاولات لإستغلال الموضوع لتصفية حسابات داخليّة.

ثانيًا: تعمل بكركي على التعامل بشكل إستيعابي مع كل الإنتقادات والإعتراضات التي تطال طرحها، وهي مُصمّمة على توضيح مغزاه في العديد من المُناسبات المُقبلة، علمًا أنّها حرصت أيضًا على التأكيد أنّ "الحياد الناشط"-كما أسمته، لا يتناقض مع حقّ لبنان بالدفاع عن نفسه، لكنّه يُبعد اللبنانيّين عن المشاكل والصراعات والمحاور والحروب الإقليميّة، ويقيهم شرورها وارتداداتها السلبيّة.

ثالثًا: بكركي مُصرّة ليس على التمسّك بمطلب الحياد فحسب، بل بالعمل على تأمين أوسع إجماع حوله أيضًا، وذلك على المُستوياتالمحلّيّة والإقليميّة والدَوليّة، لأنّها تعتبره مخرجًا أكيدًا للبنان من مشاكله الحاليّة الكثيرة. وهي حرصت خلال إعلان "مُذكّرة لبنان والحياد الناشط"، على تعداد فوائد التموضع الحيادي على لبنان، من مُختلف النواحي السياسيّة والإقتصاديّة والسياحيّة والثقافيّة والإستشفائيّة، إلخ.

رابعًا: ذهب البطريرك الراعي بعيدًا في توصيف إحدى أهمّ المشاكل التي منعت لبنان من مُمارسة الحياد الإيجابي، والتي كانت قد أرغمته على الدُخول في المحاور الإقليميّة بشكل أمني مُباشر، من خلال إنتقاده بشدّة "إتفاق القاهرة" الذي كان قد وُقعّ في العام 1969، واصفًا إيّاه بالخطيئة الكُبرى، وكذلك من خلال إبداء إستغرابه لبقاء سلاح "​حزب الله​" بعد "​إتفاق الطائف​"، واصفًا "الحزب" بالميليشيا، نازعًا عنه صفة المُقاومة(2). وعلى الرغم من تعاطي "حزب الله" بنوع من التجاهل العلني مع مطلب الحياد الذي ترفعه بكركي، في ظلّ تولّي بعض الشخصيّات والأقلام المَحسوبة على محور "​8 آذار​"، الردّ بقسوة على البطريرك الراعي، فإنّ الأكيد أنّ مرحلة جديدة ستُفتح بين بكركي الحزب في المُستقبل، بسبب إرتباط الخلاف المُستجدّ بين الطرفين، بخُطوط إستراتيجيّة وعقائديّةلا يُمكن أن تلتقي.

خامسًا: لا شكّ أنّ البطريرك الراعي يتحدّث بالمُطلق، وكل من يدخل لبنان في الصراعات الإقليميّة والدَوليّة مُستهدف، حيث ترفض بكركي التدخّل لصالح أي جهّة في حروب المنطقة، من ​سوريا​ إلى أي دولة عربيّة أخرى. لكنّ توقيت طرح الحياد، وحرص بكركي على موقع لبنان إلى جانب القضايا العربيّة، جعل "حزب الله" في طليعة المُتضرّرين من دعوات الحياد، لأنّ مرحلة إنخراط بعض اللبنانيّين في الحرب ضُدّ النظام السُوري مثلاً إنتهت عمليًا، بينما إنخراط "الحزب" في هذه الحرب وفي غيرها من الصراعات الإقليميّة لا يزال مُستمرًا. كما أنّ تموضع "الحزب" ضُمن محور تقوده ​إيران​، بوجه مجموعة واسعة من الدول العربيّة والخليجيّة، تجعله تلقائيًا في طليعة المُتضرّرين من دعوة الحياد التي تُصرّ على بقاء لبنان ضُمن موقع الطبيعي إلى جانب أشقائه العرب.

في الخُلاصة، قد يكون مصير دعوة بكركي إلى "الحياد الناشط"، مُشابهًا لمصير دعوةالعديد منالقوى السياسيّة اللبنانيّة "حزب الله" إلى تسليم سلاحه إلى ​الدولة​، أي أنّها لن تجد سوى التجاهل بعيدًا عن أيّ تطبيق مُمكن في المُستقبل القريب، لكنّ الأكيد أنّ هذه الدعوة إلى الحياد تُشكّل مطلبَ حقّ جديدًا، لا أمل بمُستقبل مُزدهر للبنان وللبنانيّين، من دون تحقيقه شأنه شأن مطلب تسليم كل الأسلحة التي بحوزة اللبنانيّين إلى ​الجيش اللبناني​.

(1) كان آخرها إعلانه خلال مُؤتمر إعلامي الإثنين "مُذكّرة لبنان والحياد الناشط"، والتي تضمّنت خمس نقاط رئيسة، هي: المُوجبات، ومفهوم الحياد الناشط، ونظام الحياد مصدر إستقلال لبنان وإستقراره، وإستفادة لبنان وإقتصاده من نظام الحياد، وما نحتاج إليه.

(2) جاء في كلام البطريرك الأخير ما حرفيّته: "ليأتي إتفاق الطائف ويُلغي كلّ الميليشيات، وبقيت واحدة إسمها حزب الله لم نفهم كيف"!.