غريب امر بعض اللبنانيين، فهم يصرّون على الوصول الى السلطة، ويصرون على التمسّك بالنفوذ حتى آخر رمق لهم في هذه الحياة. بعد خمسة عشر عاماً على جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق ​رفيق الحريري​، وبعد استعمال هذا الحكم -الذي تأخر كثيراً- في كل مناسبة وعند كل مفترق، صدم الرأي العام الغربي قبل اللبناني، بما نطقت به المحكمة التي تم اتهامها من قبل محلّلين ومتابعين دوليين، انها خضعت لمساومات ودخلت في اجواء تسوية سياسية، كي تصل الى ما وصلت اليه من خلاصة للبت في الجريمة.

وعبّر الكثير من اللبنانيين عن خيبة املهم بما آل اليه الحكم، عبر تناقل "نكتة" على وسائل التواصل الاجتماعي من ان هذا الحكم لم يكن يحتاج الى 800 مليون دولار ليصدر، وكان يمكن التوصل اليه بعدد سنوات اقل بكثير وبكلفة زهيدة جداً. على اي حال، وبعدما ارتاح اللبنانيون من كلفة هذه المحكمة بشكل اساسي، اتّضح انها تقمّصت عادات بعض اللبنانيين، وها هي تعتمد عليهم للعودة من جديد انما من باب ​مرفأ بيروت​، والانفجار الكارثي والمأساوي الذي حصل. يصرّ هؤلاء على وجوب تكليف القضاء الدولي متابعة الموضوع، بذريعة عدم ثقتهم ب​القضاء اللبناني​. واذا سلّمنا جدلاً بأن السلطة اللبنانية الحالية لا توحي بالثقة، لا بد من توجيه اسئلة باتت على لسان الكثيرين في لبنان وخارجه، واهمها:

-من نصّب هؤلاء الاشخاص متحدثين باسم اللبنانيين جميعاً؟ وهل نسوا ام تناسوا انهم ايضاً ليسوا مصدر ثقة وشاركوا ب​الفساد​ والهدر والغدر طوال عقود وسنوات خلت؟ لماذا تخلوا عن شعار "كلّن يعني كلّن" فجأة، وباتوا القضاة والمرجع الصالح لتصنيف الناس واعتبروا انفسهم، بطبيعة الحال، من الصالحين؟.

-أليس هؤلاء انفسهم، بشهادة عدد من المشاركين في اللقاءات التي اجراها رئيس الجمهورية الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ في لبنان، واتهمهم بالمشاركة في الفساد والاستفادة منه؟.

-اذا قارنّا الظروف بين اغتيال الحريري عام 2005 وبين تفجير المرفأ عام 2020، كانت الاجهزة الامنية اللبنانية متّهمة بالخضوع لسلطة السوريين خلال احتلالهم للبنان بموافقة وتأييد عربي ودولي، ورغم ذلك، اقرّت المحكمة الدوليّة بوجوب التعويض للواء ​جميل السيد​ (كان يتولى منصب المدير العام للامن العام في حينه) لما لحق به من اضرار نتيجة الاتّهامات غير الصحيحة التي طالته. اما اليوم، فالاجهزة اللبنانية لا تخضع لنفوذ السوريين، ويعترف الجميع بأنها قادرة على جمع اللبنانيين وتحوز على ثقتهم، فلماذا عدم الوثوق بها؟. اضافة الى ذلك، الا تشارك فرق متخصصة من الانتربول والمحققين الفرنسيين ومكتب التحقيقات الفدرالي FBI في القضية؟ وهل هؤلاء "يستحون" من نشر خلاصة تحقيقاتهم اذا كان هناك خوف من القضاء اللبناني؟.

-كان المأخذ عام 2005، انه تم التلاعب بمسرح الجريمة في حينه، ما منع التحقيقات من الوصول مباشرة الى الخلاصات المرجوّة، وهل ما حصل بعد انفجار مرفأ بيروت هو "الحفاظ على مسرح الجريمة"؟ لقد تحركت الاجهزة اللبنانية العسكرية والمدنية في هذه البقعة منذ لحظة الانفجار وحتى وصول الفرق الدولية، كما تحركت فرق اجنبيّة قدّمت المساعدة في عمليات الاغاثة وغيرها، فعن اي مسرح جريمة يتكلمون؟!.

-هل يمكن لهؤلاء ان يقنعوا او يقتنعوا بأنه في ظلّ "التسويات" القائمة حالياً، ليس هناك من مجال سوى لتسييس الاحكام الدوليّة؟ ففي ظلّ هذه الاجواء، حتى لو ثبت تورط ​اسرائيل​ او ​حزب الله​ او اي طرف آخر بالموضوع، سيتمّ "غض النظر" عنه كي لا تتعرض التسوية للخطر، فليحترموا عقولنا بعض الشيء...

في الخلاصة، ليس من المجدي المطالبة بمحكمة دوليّة، ليس اقتناعاً بالسلطات والقضاء اللبناني، انما للمعرفة المسبقة انّ التسويات هي التي تفوز في النهاية، وما عبرة ​المحكمة الدولية الخاصة بلبنان​، والتجربة الفاشلة في الاقتصاص من قتلة الصحافي السعودي جمال الخاشقجي، سوى خير دليل على ذلك.