كسرت الكارثة التي حلّت في ​مرفأ بيروت​ الإستعصاء السياسي الذي أحاط بلبنان. إندفعت العواصم نحو "سويسرا الشرق" فجأة تتجاوز الحصار المفروض عملياً على بلد مأزوم في كل ملفاته. أجبر الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ ضمنيّاً الآخرين، شرقاً وغرباً، على اللحاق به إلى بيروت. كلٌ له حساباته في سباق الدول على مساحة تتجاوز لبنان. فهذا البلد يشكّل جزءاً من حلبة نزاع أوروبية-تركية، إستدعت حضور ماكرون شخصياً واهتمام الفرنسيين المتواصل ببلد، خافوا في حال دبّت فيه الفوضى أن يتقاسم النفوذ فيه الأتراك والإيرانيون. هم يعرفون أن العرب فقدوا ادوارهم في لبنان، وأن إعتماد الغربيين على قوى "​14 آذار​" تلاشى بسبب إحتضار تلك المجموعات السياسية. لا يمكن جمع شمل الآذاريين. ما يفرّقهم أكبر مما يجمعهم. لذا، كانت فرنسا الأكثر واقعية في تعاملها مع أزمة لبنان الحالية بإنفتاحها على كل القوى من دون إستثناء أي فريق لبناني.

هل تكتفي باريس بخطوات ماكرون التي تجلّت بزيارته الى بيروت، والقيام بإتصالات واسعة دولية من أجل فرض حل في لبنان؟.

دعم الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ خطوات نظيره الفرنسي بشأن بيروت، ثم أتى الدبلوماسي ​ديفيد هيل​ يُرسل إشارات إيجابية شرط "تقديم السياسيين اللبنانيين تنازلات داخلية على طريق الإصلاح الإقتصادي". لكن بدا أنّ كلّ فريق لبناني يفهم التوصيات الخارجية من خلال موقعه ومصالحه، وبحسب رؤيته وحده.

التقط رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ الإشارة الدولية التي تشكّل حاضنة للبلد في حال جرى استثمارها داخلياً. أساساً عندما طرح ماكرون رأيه بتأليف حكومة وحدة وطنية، حاكى بذلك ما يطرحه "​الثنائي الشيعي​" بشأن الحكومة الجامعة، وهو ما قاله النائب محمد رعد ايضاً أمام ماكرون في قصر الصنوبر. مما يعني أن طرح تأليف هكذا حكومة لا يستثني أحداً، و خصوصاً ​سعد الحريري​ الذي يرأس أكبر كتلة نيابية تمثّل المسلمين السنّة في لبنان. عدا عن أن رؤساء الحكومات السابقين الذين يقدّمون أنفسهم أوصياء على ​رئاسة الحكومة​، يتبنّون وصول الحريري لرئاسة مجلس الوزراء، إضافة الى موقف ​دار الفتوى​ المساند لرأي رؤساء الحكومات.

بالمقابل لم يُظهر رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ موافقة مبدئية إزاء تكليف الحريري لتأليف حكومة وحدة وطنية. رغم كل ما قيل عن لقاء عون-بري الذي حصل يوم الأربعاء في بعبدا، فلا تمّ الحديث عن حكومة أقطاب ولا تمّ طرح حكومة مصغّرة. بل تحدثت المعلومات عن عدم صحة كلّ ما أشيع بهذا الشأن. ما طرحه رئيس المجلس فقط تسمية "الشيخ سعد" لرئاسة الحكومة، لكن رئيس الجمهورية أظهر عدم رغبته المضي بهذا الطرح. وهو ما اكمله النائب ​جبران باسيل​ في عين التنية الذي رفع شعار برنامج الحكومة أهم من شخص رئيسها ووزرائها.

لماذا؟ يمكن قراءة أبعاد الموقف مسنوداً إلى ما سرّب عن إقتراح رئيس الجمهورية تسمية رئيس حكومة من "المجتمع المدني"، وهو أمر يستفزّ السنّة ضمنياً: لماذا لا يسري على غيرهم ما يُراد لهم؟.

قد يصبّ طرح رئيس الجمهورية في خانة إستيعاب طرفين: اولاً، المعارضة الداخلية التي تنشط في الساحة المسيحية الآن، وهي تعتبر أن كل السياسيين مسؤولون عن الأزمة اللبنانية. بذلك، يلتف عون على السخط الشعبي بعد كارثة المرفأ. ثانياً، قد يكون رئيس الجمهورية يغازل واشنطن التي ينادي مبعوثوها بتغييرات سياسية لبنانية.

لكن هناك من يقول ان باسيل يرفع سقفه للحفاظ على مكتسبات حكومية وإدارية. هو يكرر كل تجاربه السابقة: متى أعلن باسيل موافقاته السريعة؟ هو يعرف أن تصلّبه يؤدي الى تحسين شروطه السلطوية. لكن المواطنين باتوا في مساحة أخرى: يريدون الإصلاح وتلبية مطالبهم المعيشية. لم يعد ينفع الخطاب السياسي التقليدي الذي امتهنته القوى السياسية منذ عام ٢٠٠٥. هناك أمور تغيرت في البلد بشكل بات فيه ضرورياً إستحداث سلوك وخطاب، وربما وجوه جديدة.

عند كل محطة معيشية، وفي كل آخر شهر، وعند كل زيارة مواطن لمحال تجارية غذائية أساسية، يشعر اللبنانيون بحجم التغيّر الإقتصادي التصاعدي: ألا يحتاج ذلك لخطاب ومنهجية عمل جديدة؟. نعم: ان اول محطة هي التأليف الحكومي الذي يجب ان يطلق صفارة الإنطلاقة الآن وليس غداً. كيف؟ لا يهم الناس سوى السرعة في الإجراءات الحكومية الإصلاحية.

بجميع الاحوال، إن حظوظ التسوية السريعة المرتقبة تتجاوز 70%، لكن نسبة 30% المتبقية تصبّ عند فرضية إستمرار الاشتباك، لإعتبارين: اولاً، يريد الأميركيون أن يستكملوا مسار القرار الدولي 1559. ثانياً، لا يريد الإيرانيون تقديم أي تنازلات يستفيد منها الرئيس الأميركي دونالد ترامب الآن في سياساته الخارجية التي سيوظّفها في مناظرته الإنتخابية في وجه خصمه جو بايدن، أمام الرأي العام الأميركي بعد أسابيع.

لا يمكن فصل الساحات عن بعضها، ولا مشاريع التسويات المطروحة. يمر لبنان والإقليم في فترة الوقت الضائع دولياً. يستطيع ان يستفيد اللبنانيون من هذه الفرصة بإستثمار الحاضنة الفرنسية لتأليف حكومة إنقاذية سريعة تضع حداً للتدهور الحاصل، لأن الأشهر المقبلة ستشهد انهياراً بشكل أوسع، بعد عجز مصرف لبنان عن دعم او تمويل حاجات أساسية خلال ثلاثة أشهر من الآن. فهل يستمر السياسيون بالترف؟ أم يتحمّلون المسؤولية الوطنية التاريخية؟

كل الخيارات مفتوحة، بما فيها إعادة استنهاض الشوارع المعترضة.