بات واضحاً أو يجب أن يكون معلوماً أن تشكيل ​الحكومة​ في ​لبنان​ في مرحلة ما بعد الرعاية السورية، ليس بالأمر السهل خاصة في ظلّ الفيتوات المتبادلة والصعوبات التي تعترض عملية تشكيل ايّ حكومة في لبنان. والسبب في ذلك عائد الى طبيعة نظام الحكم في هذه ​الدولة​، فالنظام قائم على أعراف وعادات نشأت في مقابل النص فعطلته وبات نظامنا نظاماً لا مثيل له على ​الكرة الأرضية​ حيث تقوم فيه الهوة السحيقة بين النص والتطبيق.

فالنص ​الدستور​ي في لبنان يقول بـ «نظام ديمقراطي برلماني في دولة واحدة يكون فيها النائب ممثلاً للأمة جمعاء ويكون الحكم للأكثرية البرلمانية مع مراعاة حقوق ​الطوائف​». وفي التطبيق يؤخذ بحكومة الأكثريات ​الطائف​ية وبمنطق النائب يمثل طائفته ويحكم الأقوى في طائفته مع بدعة الميثاقية، ما حوّل الحكم الى نظام فيدرالية مشوّه قائم على فيدرالية الطوائف الكبرى، ثم يعطّل النص حيث يكون حق الفيتو لأيّ مكوّن طائفي خاصة من تلك الطوائف الكبرى الثلاث التي باتت منذ العام 2005 محكومة بملوك أو أمراء طوائف لا تؤثر صناديق ​الانتخابات​ إلا في تجديد تثبيتهم في مواقعهم. ولأنهم ثابتون فإنّ طبيعة الحكومة التي تشكل باتت ثابتة وتندرج تحت عنوان من اثنين في الاتفاق او الاختلاف.

فإذا اتفقت الأكثريات الطائفية تشكلت الحكومة وأسميت «حكومة الوحدة الوطنية»، والأصحّ أن تسمّى «حكومة ​الفساد​ الوطني» التي تعطل أيّ دور رقابي للمجلس النيابي لأنّ الحكومة بذاتها تنقلب الى ​مجلس نيابي​ مصغّر وهذا النموذج هو الأسوأ في الحكم على الإطلاق لأنه صيغة ترسي ​المحاصصة​ وتشيع الفساد وتعطل القانون وتلغي ​الكفاءات​ وتعطل المراقبة والمحاسبة. وهذا الأمر هو سرّ انهيار لبنان الذي ضاعت دولته في دهاليز الطبقة السياسية التي نهبت ​المال​ العام وهجّرت الكفاءات وأجهزت على الدولة.

اما إذا اختلفت، وشكلت حكومة من غير أكثرية إحدى الطوائف فإنّ الحكومة تسمّى حكومة اللون الواحد او الحكومة البتراء او الحكومة غير الميثاقية. ومهما تكن التسميات فإنّ مثل هذه الحكومة تُحاصَر من الداخل والخارج وتُمنع من العمل في سبيل المواطن وتعطل شؤون الدولة ويحتار المتابع في تصنيفها فهل هي أقلّ أو أخطر وأكثر سوءاً من «حكومات الوحدة الوطنية» حكومات النهب المنظم والمحاصصة المقيتة؟

في ظلّ هذا الواقع المرير، وفي سياق البحث عن مخارج راح البعض من الداخل او الخارج يطرح صيغ حكومات تتعدّى النموذجين المتقدّمين، وأهمّ ما طرح في هذا النطاق صيغتان، الأولى صيغة الحكومة المحايدة او حكومة المستقلين، والثانية صيغة حكومة التكنوقراط الأخصائيين، فهل من مجال لاعتماد أيّ منهما في لبنان في ظلّ النص الدستوري القائم والمقرون بأعراف بدعة الميثاقية و​المناصفة​ التي تكاد تتوسّع حتى بتنا نخشى أن نصل يوماً الى حدّ اشتراط المناصفة في الدخول الى ​المستشفيات​ او الحصول على المواد الغذائية.

هل يمكن قيام حكومة سياسيين مستقلين عن القوى السياسية التي أتت بها ​الانتخابات النيابية​؟ او حكومة لا عهد لوزرائها ب​السياسة​؟

نعود الى النص الإلزامي في الدستور والذي يفرض ان تكون الأكثرية النيابية هي مَن يختار رئيس الحكومة باستشارات ملزمة ل​رئيس الجمهورية​، وهي من يمنح الثقة للحكومة بعد تشكيلها، الثقة التي لا يمكن للحكومة أن تُحكم بدونها والتي لا يكون للحكومة قبلها من صلاحية أكثر من ​تصريف الأعمال​ في نطاق ضيق.

إنّ تشكيل حكومة لا تختارها الأكثرية النيابية او تقبل بها هذه الأكثرية أمر غير ممكن بحسب الدستور، ثم أنّ فيه تجاوزاً لنتائج الانتخابات النيابية لأنّ النظام الديمقراطي البرلماني يفرض أن يختار الشعب ممثليه بحرية وهؤلاء تنبثق عن أكثريتهم حكومة تحكم تحت رقابة المجلس الذي يبقى له حق التشريع بشكل مطلق تحت سقف الدستور الذي يكون هو أيضاً قابلاً للتعديل وفقاً لأصول محدّدة. وعلى هذا نقول إنّ حكومة المستقلين ليست بالحكومة التي تستجيب لنصوص الدستور مهما قيل فيها ومهما أغدق عليها من محاسن.

أما الحكومة الأخرى أيّ حكومة التكنوقراط، فبرأينا كانت حكومة ممكنة الوجود والقبول بها قبل تعديلات الطائف، حيث كان رئيس الجمهورية هو المتولي للسلطة للتنفيذيّة يمارسها بمعاونة الوزراء وبالتالي كان يمكن أن يكتفي بوزير اختصاصي لأنّ القرار السياسي يتخذه رئيس الجمهورية، اما اليوم فإنّ ​السلطة​ التنفيذية باتت في ​مجلس الوزراء​ ولا يمكن إلا أن يكون المجلس من طبيعة سياسية وأيّ قول غير ذلك يجافي المنطق والقانون.

ولأنّ لبنان يمرّ بمرحلة حرجة، ولأنّ تشكيل الحكومات في لبنان يخضع لمثل هذه التعقيدات ويستلزم الوقت الطويل الذي يلامس ​السنة​ أحياناً (أيّ ربع عمر ​مجلس النواب​) ولأنّ ​الفراغ السياسي​ هو حلقة من حلقات خطة بومبيو لضرب لبنان ودفعه للانهيار ومحاصرة ​المقاومة​، لكلّ ذلك رأينا كيف اتخذت المقاومة موقفاً من الحكومات منذ أن وضعت خطة بومبيو في آذار 2019 موضع التنفيذ. فقد تمسكت المقاومة وبصريح البيان على لسان سيدها بحكومة سعد ​الحريري​ ورفضت استقالتها، ولما استقال الحريري تمسكت بعودته للحكم مراعاة لما تقدّم، ولما رفض تمسكت بتشكيل حكومة جامعة، ولما فشل الطرح شكلت مع حلفائها حكومة الأكثرية وتمسكت بها حتى الرمق الأخير ورفضت استقالتها. ولما استقالت تسعى المقاومة الى حكومة تملأ الفراغ السياسي. فهل يحصل؟

هنا يجب الأخذ بعين الاعتبار مسائل أربع ولا يسمح بالتصرف كالنعامة والتعامي عن الحقائق بصددها، يجب الانتباه الى المخطط الخارجي الذي يهدّد لبنان ومقاومته من خلال إحداث فراغ سياسي يقود إلى فوضى ثم…، ويجب النظر والاهتمام بمواقف من يتطوّع لطرح ملفات تصبّ في خدمة المخطط الخارجي من قبيل المطالبة بـ «الحياد ونزع ​السلاح​ غير الشرعي و​مداهمة​ مخازن الأسلحة»، كما يجب وقبل أيّ شيء النظر الى الوضع المعيشي المتدهور والانهيار المالي الذي يُنذر بأسوأ العواقب من دون أن نتغافل عن جائحة ​كورونا​ التي تفتك بالشعب.

وعليه نرى أنّ حكومة ما يسمّى الوحدة الوطنية مستحيلة التحقق اليوم في ظلّ رفض مكونات أساسية لها، وانّ حكومة الحياد تنطوي على مخاطر لا يُستهان بها وتشكل في حدّ ذاتها استجابة لأعداء المقاومة والشعب وتعطيل للدستور وانّ حكومة التكنوقراط لا تقلّ صعوبة وسلبية عنها.

يبقى الأمر الوحيد المتاح اليوم هو حكومة الأكثرية، كما كانت حكومة ​حسان دياب​ التي كان على من حاصَرها وأسقطها أن يلتفت إلى هذه الحقائق ويتجنّب الوقوع في مخاطرها كما ويحاذر السير بقدميه الى فراغ سياسي خطر قد يطول في ظلّ الأوضاع القائمة.

أما الخطة العمليّة للخروج من المأزق الذي بتنا فيه فإنه برأينا لا يتعدّى أحد حلّين أولهما يبدأ بتنازل أركان الأكثرية النيابية الحاليّة عن ذهنية المحاصصة والشخصانية والعودة الى ​حكومة حسان دياب​ وتعويمها بطريقة لبقة تأخذ بقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» وتمكّنها من تصريف أعمال موسّع لمدة 19 شهراً تفصلنا عن موعد الانتخابات النيابية او إعادة تكليف حسان دياب أو من يشبهه بتشكيل حكومة تحتفظ بالوزراء الذين ثبت نجاحهم في الحكم، حكومة تشرف على الانتخابات المقبلة في ربيع 2022 وفقاً ل​قانون انتخاب​ جديد يتمّ السعي إليه منذ الآن على أساس وطني غير طائفي، كما فرض الطائف، ويكون مترافقاً مع إنشاء مجلس شيوخ يحفظ الطوائف بخصوصياتها ويضع حداً لبدعة ​الفيدرالية​ الطائفية المعطلة ولنظام الفساد المستحكم. وعلى الجميع ان يقتنع بأنّ لبنان لا يمكن ان يستمرّ في هذا النظام السياسي المدمّر، كما لا يمكن القبول باستمرار أو قيام دكتاتوريات فيه سواء خارجية كانت أو جاءت من فئة أو شريحة في الداخل.