بعد ساعاتٍ على "المجزرة الرهيبة" في ذلك اليوم "المنحوس" في الرابع من آب، خرج السياسيّون ​اللبنانيون​ من مختلف الكتل والانتماءات ليُبدوا "تعاطفاً" مع المواطنين المتضرّرين والضحايا، وليتّفقوا، في مفارقةٍ "نادرةٍ" ربما، على شعارٍ واحدٍ أوحد، مفاده أنّ ما بعد الرابع من آب لا يمكن أن يكون كما قبله.

لكن، لم تكد تمرّ ساعاتٌ على هذه "الاندفاعة" الإنسانيّة، الغريبة ربما، حتى "عادت حليمة إلى عادتها القديمة"، كما يقول المثل الشهير، فدخل "الزلزال الكارثيّ" في "البازار" السياسيّ، وقرّر كلّ فريقٍ "توظيفه" بما يخدم "أجندته" السياسيّة، ولو جاء ذلك فوق الأشلاء والجثث والدماء التي لم تكن قد جفّت، وهي لم تجفّ بعد للمناسبة.

استقالت الحكومة. لم يكن ذلك على وقع "ال​انفجار​"، بل بعد أسبوعٍ منه، على وقع قرارٍ سياسيّ وجد في "الانفجار" فرصة لـ "التخلّص" منها، بعدما أصبحت "عبئاً" على عرّابيها. لم يدعُ ​رئيس الجمهورية​ إلى استشارات جديدة، ريثما "تنضج" الصورة، فيما كانت "المفاوضات" نَشِطة بين القوى السياسية على "حصّة" هذا الفريق وذاك في الحكومة، كما في كلّ مرّة!

بين التحقيق... والمأساة!

بعد انفجار الرابع من آب، أعلنت الحكومة فتح "تحقيقٍ" وُصِف بالشفّاف والشامل بكارثة المرفأ، ممارِسةً "هوايتها المفضّلة" بتشكيل اللجان، التي اعتمدتها "أسلوب حياة" منذ وصولها إلى الحكم قبل أشهر. لم تكتفِ بذلك، بل وعدت بأنّ نتائج هذا التحقيق ستصدر بسرعةٍ قياسيّة، محدِّدةً مهلة خمسة أيام، كحدّ أقصى لا أدنى، لإعلانها، في حدثٍ كان من شأنه تشكيل "سابقة" تحصل للمرّة الأولى في ​تاريخ لبنان​.

وفي حين ذهب بعض "عرّابي" الحكومة أبعد من ذلك بالمجاهرة بأنّ التحقيق المعنيّ إداريّ وتقنيّ محض، وهو بالتالي لا يمكن أن يستغرق وقتاً، ولا بدّ لنتائجه أن تصدر سريعاً، انقضت المهلة، مُضاعَفةً، من دون أن تصدر أيّ نتائج ولا من يحزنون. وإذا كانت الحكومة تعتبر أنّها "أنجزت" ما عليها بإحالة الجريمة إلى ​المجلس العدلي​، فإنّ الشكاوى من "بطء" التحقيقات تتفوّق على ما عداها، خصوصاً أنّ أيّ مسؤولٍ من الدرجة الأولى لم يُستدعَ للتحقيق حتى اليوم، باستثناء المعنيّين مباشرةً بالمرفأ، والذين تنشط ​الاتصالات​ في الكواليس أصلاً لإيجاد "المَخرَج" المناسب لهم، بما "يعفيهم" من أيّ مسؤولية، ولو كانت معنويّة أو أخلاقيّة.

وبين هذا وذاك، لم تنتهِ "المأساة" الإنسانيّة فصولاً بعد، ولو اصطدمت بـ"تجاهل" المسؤولين على اختلافهم، ممّن اعتبروا أنّ الوقت "كفيلٌ" بحرف الأنظار عنها. وفي هذا السياق، ثمّة عائلات لا تزال تبحث عن "مفقوديها"، بعدما فقدت أيّ "أمل" كانت ترغب بالتمسّك به حتى الرمق الأخير، على رغم الجهود التي بذلتها القوى الأمنيّة على هذا الصعيد، وهو ما يُسجَّل لها. وفي المقابل، ثمّة عائلات أخرى "مشرّدة" لم تجد في ​الدولة​ من يتحمّل المسؤولية تجاهها، وأخرى وقعت "فريسة" استغلال بعض الأفراد والمؤسسات، بعنوان "المساعدات الإنسانيّة"، دون حسيبٍ أو رقيب.

أما ​السلطة​، فلم تفعل طيلة هذه المدّة سوى التفرّج، و"التنظير". كلّ أركانها اتفقوا على شعار "ما قبل الرابع من آب ليس كما بعده"، لكنّهم تصرّفوا جميعاً أيضاً وفق منطق، لا ما قبل الرابع من آب فحسب، بل ما قبل السابع عشر من تشرين الأول، معتقدين بأنّ "الرابع من آب" كسر تلك "الحواجز" التي رسمتها "​الانتفاضة​ الشعبية"، حتى أنّ بعض "الأقطاب" وعدوا نفسهم بالعودة إلى "جنّة" الحكومة من جديد...

"عوْدٌ على بدء"

قد يكون المشهد الحكوميّ الدليل الأسطع على هذه "الخُلاصة". لعلّ بيان "الاعتكاف" الذي أصدره رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، على أهميته، المثال "الفاقع" على ذلك. ليست المشكلة فقط في أنّ هذا البيان لم يصدر إلا بعد أسبوعيْن على بدء المشاورات الحكومية، التي كان فيها اسم "الشيخ سعد" هو الأكثر تداولاً، من دون أن ينبس ببنت شفة، إلا بعدما تيقّن على الأرجح من "انعدام فرصه"، ولكن في أنّ هذا البيان بدا "مكرَّراً" في الشكل والمضمون.

هكذا، يمكن اختصار المشهد الحكوميّ بتعبير "عوْدٌ على بدء". بيان الحريري بالتحديد ليس الأول من نوعه. كثيرون استذكروا لدى الاطّلاع على مضمونه وحيثيّاته، بيانه المشابِه قبيل تكليف حسّان دياب رئيساً للحكومة خلفاً له. يومها، أعلن الحريري أيضاً أنّه غير مرشّح ل​رئاسة الحكومة​، بعد "تضييع" أسابيع على محاولة إيجاد التوافق حول اسمه، قبل أن يتعرّض لـ"صفعةٍ" من حلفائه، ولا سيما "​القوات اللبنانية​"، التي أعلنت عدم تسميته فجر اليوم المفترض للاستشارات النيابية.

وإذا كانت عوامل داخلية وخارجية أسهمت في دفع الحريري للاعتكاف، كما يؤكد العارفون والمطّلعون على موقفه، فإنّ بيانه جاء "تفصيلياً" في المشهد الحكوميّ المكرَّر، والذي يتجاهل بكلّ بساطة الظرف "الاستثنائي" الناشئ عن "نكبة ​بيروت​". تتحوّل ظاهرة "التأليف قبل التكليف" مثلاً إلى "الشغل الشاغل" للبعض، بين من يعتبرها حقّاً بديهياً لرئيس الجمهورية، خصوصاً في مثل هذه الظروف الاستثنائية، ومن يرى فيها "مصادرة" لصلاحيّات رئيس الحكومة، لا يمكن السكوت عنها، ولو سكتوا عنها حتى ما قبل قرار الحريري بسحب اسمه من التداول.

لكن، خلف "التسريبات" التي تلاحقت عن "المفاوضات" الحكومية، ما هو أسوأ من هذا "السجال" وكلّ ما يحيط به. ليست المشكلة فقط في أن "حسابات" الرابع من آب غابت عن المشهد، لتسيطر عليه، على جري العادة، الشروط والشروط المضادة التي يضعها هذا الفريق وذاك للدخول في التركيبة الحكوميّة، ولكن في أنّ هذه "الشروط" لم تخضع لأيّ "تعديل". ولعلّ "حراك" المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس إبراهيم​ بين ​بعبدا​ و​عين التينة​ و​بيت الوسط​ واضحٌ في سياق "المسعى التوافقي" الذي لم يشمل حتى الآن، للمفارقة، برنامج الحكومة الفعليّ، والذي ينبغي أن يتقدّم على الأسماء أصلاً.

كأنّ شيئاً لم يكن!

كأنّ شيئاً لم يكن، تتصرّف القوى السياسيّة هذه الأيام. برأيها ربما، يكفي أسبوعان للترحّم على الشهداء، وتمنّي الشفاء للجرحى. بعضها يجد الوقت مناسِباً للدخول في سجالاتٍ من نوعٍ آخر، حول إقالة موظّفٍ من هنا، أو تعيين آخر من هناك، قبل أن تأتي ​الحكومة الجديدة​.

كأنّ شيئاً لم يكن، تتعامل القوى السياسية مع الملفّ الحكوميّ. تقول إنها ستسهّل وتتعاون، لكنّها تتباهى بأنّ "شروطها" معروفة للقاضي والداني، وأنها لا تزال على حالها. وتدير خلف الكواليس "مفاوضات" لا على "أجندة" الحكومة، ولكن على "حصصها" ضمنها.

كأنّ شيئاً لم يكن، "تماطل" القوى السياسية في حسم الملف الحكومي. لا تبدو "مستعجلة" على شيء، فحكومة ​تصريف الأعمال​ موجودة لسدّ "الفراغ" ربما. هي إن شعرت بـ "الضغط"، فليس سوى من الخشية من "غضب" الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، وإمكان إلغاء زيارته المقرّرة في الأول من أيلول.

إزاء كلّ ذلك، يصبح السؤال أكثر من مشروع. هل حصل فعلاً "انفجار" في الرابع من آب، وأودى بحياة العشرات من دون أيّ ذنب؟!