تسير عمليّة تشكيل الحُكومة الجديدة، كأنّ ​لبنان​ بألف خير ولا يُواجه جُملة من المصائب المُتراكمة، من الإنهيار المالي وتعثّر الدورة الإقتصاديّة إلى إنتشار وباء ​كورونا​، وكذلك كأنّ اللبنانيّين يعيشون في نعيم "سويسرا الشرق" ولا يُواجهون قساوة الظُروف والتحدّيات الإقتصادية والمَعيشيّة والحياتيّة غير المَسبوقة. فما الذي يحصل، ولماذا لم تُبصر الحُكومة الجديدة النور بعد؟.

على المُستوى الداخلي، فشل رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ الذي أجرى خلال الأيّام القليلة الماضية سلسلة إتصالات مع شخصيّات وقوى رئيسة، في كسر الجليد القائم بين فريق العهد الرئاسي من جهة، و"تيّار المُستقبل" من جهة أخرى. وبإختصار "التيّار الوطني الحُرّ" لا يُريد حُكومة تؤدّي إلى فشل ما تبقّى من العهد الرئاسي المَحسوب عليه، و"تيّار المُستقبل" لا يريد العودة مُباشرة أو غير مُباشرة إلى رئاسة الحُكومة بشكل صُوري وغير فاعل، وهو يشترط أن تكون الحكومة إصلاحيّة وخاليّة من القوى السياسيّة لتأييدها. أمّا "​حزب الله​" فيرفض من جهته تجاوز نتائج الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، وسلب الأغلبيّة حقّها في أن تكون لها الكلمة الفصل على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، أو أن يكون خارج السُلطة-ولوّ أقلّه بشكل غير مُباشر، في ظلّ الهجمة الدَوليّة الضاغطة عليه. من جهة أخرى، ترفض "القوات" دعم أيّ حُكومة سياسيّة ولا تكون أولويّتها إطلاق الإصلاحات وتنظيم إنتخابات نيابيّة مُبكرة، بينما يعتبر "الإشتراكي" أنّ مُوافقة رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​ بأن يرأس حُكومة جديدة لا يُشكّلها بحريّة، سيحول دون تحقيق أيّ إنجازات، وسيُحمله شخصيًا مسؤوليّة الإنهيار، وسيُساهم في إنقاذ العهد.

وعلى المُستوى الخارجي، ليس بسرّ أنّ الجانب الأميركي مُصرّ على إبعاد "حزب الله" عن الحُكومة المُقبلة، وهو يضغط لتحقيق هذا الهدف، بينما الجانب الفرنسي حريص على أن تكون الحُكومة المُقبلة إصلاحيّة الطابع وغير مُكبّلة بالإنقسامات السياسيّة الضيّقة في لبنان، بغضّ النظر عن هويّة رئيسها وعن تركيبتها. أمّا الدُول العربيّة، لا سيّما تلك التي تتأثّر بقرار المملكة العربيّة السُعوديّة، فهي غير مُتحمّسة لعودة رئيس "تيّار المُستقبل" في ظلّ المُعطيات الراهنة.

وأمام هذه التعقيدات والشروط، كان من البديهي أن يُعلن رئيس "تيّار المُستقبل" أنّه غير مُرشّح، والسؤال الذي يفرض نفسه: ماذا سيحصل الآن؟.

أوّلاً: من المُتوقّع أن تتواصل خلال الساعات القليلة المُقبلة الإتصالات الرامية إلى إقناع رئيس "تيّار المُستقبل" بتسمية شخصيّة من قبله ل​رئاسة الحكومة​. وحتى لحظة كتابة هذا المقال، كانت النتائج في هذا السياق غير مُشجّعة، لأنّ "تيّار المُستقبل" لا يريد تأمين أيّ غطاء سياسي أو معنوي لأيّ طرف، ولا تعويم أيّ جهة سياسيّة، من دون أن ينال أيّ مكسب في المُقابل. وهو بالتالي، يرفض تسمية شخصيّة مَحسوبة عليه، وأن يُشارك بمجموعة من الوزراء المَحسوبين عليه أيضًا، إلى جانب باقي القوى السياسيّة الرئيسة، وذلك في حكومة ظاهرها حياديّ وتكنوقراط، وباطنها سياسيّ-كما كانت عليه الحكومة المُستقيلة برئاسة الدُكتور حسّان دياب.

ثانيًا: في حال إستمرار التعثّر القائم، من المُتوقع أن يتمّ قريبًا تحديد موعد الإستشارات النيابيّة، خاصة بعد تصاعد الأصوات التي تنتقد ما تعتبره مُخالفات للدُستور عبر تأخير الإستشارات المُلزمة، وما تعتبره مُصادرة لصلاحيّات رئيس الحُكومة عبر السعي لإتمام مسألة التأليف قبل التكليف. وهناك من يتحدّث عن موعد قريب جدًا للإستشارات، قد يسبق العودة المُنتظرة للرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون إلى لبنان، مطلع أيلول المُقبل، علمًا أنّ الجانب اللبناني أنجز إلى حدّ كبير، خطّة إصلاحيّة-كما طلب ماكرون والمُجتمع الدَولي ككلّ، تتضمّن العديد من البُنود التي وردت في الورقة الفرنسيّة الإصلاحيّة، وذلك بهدف تحضير الأرضيّة المُناسبة لفتح باب المُساعدات والقروض الماليّة التي يُعوّل عليها لبنان لوقف الإنهيار الحاصل.

ثالثًا: في حال جرى تحديد موعد الإستشارات النيابيّة في ظلّ المُعطيات الحاليّة، أي من دون توافق داخلي-دَولي مُسبق، فإنّ "سيناريو" حكومة الدُكتور دياب، مُرشّح للتكرار، لكن طبعًا برئاسة شخصيّة أخرى، ومع وُجوه وزارية "حياديّة" ظاهريًا جديدة تُسمّيها قوى الأغلبيّة النيابيّة، إلا إذا كانت القوى السياسيّة المَعنيّة لا تُمانع بقاء حُكومة ​تصريف الأعمال​ الحاليّة إلى أجل غير مُسمّى!.

رابعًا: من غير المُستبعد أن يلجأ رئيس "تيّار المُستقبل" إلى ضربة إستباقيّة لإفشال أيّ مسعى لتشكيل حكومة أكثريّة جديدة، من خلال أن يعمد إلى تسميّة مُرشّح غير مَحسوب على "تيّار المُستقبل"-كما يُطالبه رئيس ​مجلس النواب​، بل مرشّح على غرار السفير السابق نوّاف سلام، على سبيل المثال لا الحصر، بحيث يسعى لسحب ورقة "الميثاقيّة السنّية" من يد الأكثريّة في حال جرى تجاهل طرحه خلال الإستشارات، علمًا أنّ هكذا إسم يُمكن أن يمرّ في حال تبنّيه من قبل نوّاب "التيّار الوطني الحُرّ"، و"القوات" و"الإشتراكي". وبحسب المعلومات، إنّ "​الثنائي الشيعي​" سيُضطرّ عندها إلى إستخدام ورقة "الميثاقيّة الشيعيّة" عبر رفض التصويت لسلام من قبل مُختلف النوّاب الشيعة. وهناك من يتحدّث عن أنّ الأمور لن تصل إلى هذه المرحلة، حيث بإمكان الأكثريّة النيابيّة-وبالتنسيق مع "الوطني الحُرّ"، إختيار شخصيّة سنّية تحظى بقاعدة شعبيّة على غرار النائب ​فيصل كرامي​، أو النائب ​فؤاد مخزومي​، إلخ. علمًا أنّ من شأن هكذا خيار أن يفتح الباب اللبناني على موجة مُعارضة داخليّة وخارجيّة واسعة جدًا.

في الختام، لا بُد من الإشارة إلى أنّ كل هذه السيناريوهات يُمكن أن تسقط دُفعة واحدة، في حال نجحت إتصالات الساعات الأخيرة، في إحداث الخرق المَنشود، إلا إذا كان أهل الحُكم-من دون إستثناء، ما زالوا غير آبهين بالنقمة الشعبيّة العارمة ضُدّهم، وما زالوا يتصرّفون وفق حسابات سياسيّة وحزبيّة وطائفيّة ومصلحيّة، بعيدًا عن مصلحة الوطن والشعب.