نقرأ في المزمور الثّامن "فَمَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَذكُرَهُ؟ وَابْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟ وَتُنْقِصَهُ قَلِيلًا عَنِ الْمَلائِكَةِ، وَبِمَجْدٍ وَبَهَاءٍ تُكَلِّلُهُ. تُسَلِّطُهُ عَلَى أَعْمَالِ يَدَيْكَ. جَعَلْتَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ"(مز ٤:٨-٦).

يتعجّبُ صاحبُ المزمورِ هذا سَائلًا اللهَ: ما هذهِ المَحبَّةُ الكَبيرةُ والكَرامَةُ للإنسان؟ مَن هُوَ هذا ​الإنسان​ُ لِيكونَ له كلُّ هذا المجد؟ الجَوابُ يأتي في أُولى صَفحاتِ الكِتابِ المُقدَّسِ، "قالَ اللهُ: "نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا"(تكوين ٢٦:١). إذًا هذا هو الجوابُ. خُلِقَ الإنسانُ على صُورةِ اللهِ، عَلى صُورةِ الابنِ الّذي تَجَسَّد، وهُوَ مَدعوٌ أن يُحَقِّقَ في خلال حياتِهِ الأَرضِيَّةِ هذا الشَّبَهَ الإلهِيّ.

إجتماعيًا، هناك مفاهيمُ عِدَّةٌ تُعطي تعريفاتٍ للإنسان. يقول عنه العِلمُ بِأَنّهُ "شَخصٌ حَكيم" Homo sapiens، مِن أهم مِيزاتِهِ ذَكاؤهُ المُتَطَوِّر. ويَرتَبِطُ بِالإنسانِ ما يُسَمَّى بِالحَضارَةِ الإنسانِيَّة Humanitas، الّتي تُمَيّزُهُ عنِ المُجتَمَعِ الحَيوانيّ. إذًا للإنسان مكانةٌ وقِيمَة، إجتماعيًّا مُرتَبطَةٌ بالأخلاق والذَّكاءِ، وبيبليًّا هُوَ صُورةُ اللهِ على الرَّجَاء.

إلهيًّا، لِوُجودِ الإنسانِ هَدَفٌ، وهَدَفٌ سامٍ جِدًّا ألا وَهُوَ أن يَكُونَ مَسيحًا عَلى الأَرضِ، وتَتَحقَّقَ بِهِ مَشيئَةُ اللهِ بِالكَامِلِ الّتي هي القَداسَة. الكَنيسةُ تَقُولُ في قِدِّيسيها:"اللهُ أصبحَ إنسانًا لِيَتَألَّهَ الإنسانُ" و"لِيُصبِحَ الإنسانُ بِالنِّعمَةِ الإلَهِيَّة"، أي لِيَقتَبِلَ الإلهيَّاتِ ويُتَرجِمَهَا مَسيرَةَ عَيشٍ وَحَيَاة. وَلكنَّ هذا يَشتَرِطُ قَبلَ كُلِّ شَيءٍ أن يَستَعيدَ الإنسانُ إنسانِيَّتَهُ لِيَستطِيعَ الانطِلاقَ إلى الأُلُوهَة. فَأن يَكون الإنسانُ إنسانًا ليس بالأمر السَّهلِ على الإطلاق، من هنا "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا"(يوحنا ١٤:١) لِيُعلِّمَنا كيف نَعيشُ إنسانِيَّتَنا غَيرَ المُنفَصِلَةِ عَن دَعوتِنَا لِلأُلوهة.

فَكلِمَةُ"إنسان" إذًا تَحوي فِي عُمقِها هَذا المَشروعَ الإلَهِيّ. ألا نَستَعمِلُ في كَلامِنا العَامّي كَلمَةَ "يا إنسان"؟ ونَقصِدُ بِهَذهِ المُخَاطَبةِ مَا هُوَ راسِخٌ في الذَّاكِرَةِ الجَماعِيَّةِ الإنسَانِيَّةِ عِندَنا، أي أن يَكونَ المَرءُ عَاقِلًا.

كان هَدفُ الفَلسفَةِ عندَ اليُونانيّينَ قَدِيمًا أن يُعلِّموا النَّاسَ كيف يَكونُون بَشرًا، أي أن يَتَحلَّى النَّاسُ بِالفَضائل. ومَن كانَ بِلا فَضائلَ سَقطَتْ عنهُ صِفةُ الإنسانِيّة، وصُنِّفَ مَعَ الحَيواناتِ والوُحوش. وفي الفَلسفَةِ الحَديثَةِ بدءًا مِن "نيتشه"Nietzsche (١٨٤٤-١٩٠٠م)، طُرِحَتِ المُعادَلَةُ التَّالية: كَيفَ للإنسَانِ خَارجَ الإنسَانِيَّةِ أن يُصبِحَ "نَفسَه" أي إنسانًا، ويَتحرَّكَ دَاخِليًّا في حُريَّةٍ مُطلَقة؟.

وبَقِيَ البَحثُ الفَلسفِيُّ القَديمُ عَنِ السَّعادةِ الدَّاخِليَّةِ مُستَمِرًّا، وعُبِّرَ عَنهُ بِكَلِمَةِAtaraxiaἀταραξία، ويُضافُ إلى ذَلِكَ ألّا يَكونَ الإنسانُ مُكَبَّلًا مِنَ الدَّاخِل، أي أن يَقبَعَ في سِجنِ ذاتِه.

الإنسانيَّةُ، بَحثَت بِقُوَّةٍ، عَلى مدى العُصُورِ، ومَا زَالت، عن هَذا التَّحرُّرِ، وعَن هَذِهِ الحُريَّةِ، بَينما الجَوابُ أتى واضِحًا مُنذُ أكثرَ مِن ألفَي سَنةٍ: "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ"(٢ كو ١٧:٣). ولا داعيَ للتَّذكير بِما قاله الرَّبُّ لنا: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ"(يو٢٧:١٤).

نتلو هذا الأحدَ المَقطعُ الإنجِيليُّ الّذي يَسألُ فيهِ أَحَدُ الأشخاصِ الرَّبَّ يَسوع: "أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ؟"(متى١٦:١٩)، ويَنتهي الحِوارُ بَينَهُما، بَعدَ أن يُؤَكِّدَ الشَّابُّ بِأنَّهُ حَفِظَ كلَّ وَصايا الرَّبِّ، بِدَعوَةِ الرَّبِّ لَه: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي". لكن، "فَلَمَّا سَمِعَ الشَّابُّ الْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَال كَثِيرَةٍ". مَقصَدُ الرَّبِّ ألّا نَتَعلَّقَ بشيء إلّا بِالرَّبِّ ونسعى إلى مَلَكُوتِ السَّماوات "لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضا"(متى ٢١:٦).

وقد قالَ"نِيتشه" في بَحثِهِإنَّ "الإنسانَ حَبلٌ مَشدُودٌ بَينَ الحَيوانِ والإنسان الخارق، وهو حَبلٌ فَوقَ الهَاوِية"(1).

ولكن كيف؟ يجيب الآباءُ القِدِّيسونَ ويَقُولُون: "القَداسةُ أن تَجلِسَ فَوقَ الجَحيمِ وتَغلِبَهُ بِالغَالِبِ والمُنتَصِرِ أبدًا، أي الرَّبُّ القَائِمُ مِن بَينِ الأَموات".

لا رَيبَ أنَّ الإنسانَ هُوَ دَائمُ البَحثِ ولَكِن، أَستَذكِرُ هُنا مَا قَالَهُ الفَيلسوفُ الإنكليزيّ "فرانسيس باقون" Francis Bacon (١٦١٧-١٦٢١م): "قليلٌ مِنَ الفَلسَفَةِ يَأخُذُ الإنسانُ إلى الإلحاد، ولَكِنَّ التَّعمُّقَ في الفَلسفَةِ يَحمِلُ النَّفسَ إلى الدِّين"(2).

خلاصة، لقد صَدَقْتَ يا جان بُول سَارتر (فيلسوف فرنسي ١٩٠٥-١٩٨٠م) بِقَولِكَ: "لَيسَ الإنسانُ سِوى مَشروعِه، فَهو مَوجُودٌ فَقَط بِقدرِ ما يَتَحقَّقُ هَذا المَشروع". الله دَعانا إلى القَدَاسَةِ، والمَشرُوعُ الأَسمى لِلإنسانِ هُوَ أن يَتَقَدَّس، ولا يُمكِنُ للقَداسةِ أن تَتحقَّقَ إن لَم نَعِشْ على الأَرضِ كَمُواطِني السَّماء. فهل نقوم بذلك؟.