في ظل التعقيدات السياسية والاقتصادية والمالية والمعيشية التي تسيطر على ​لبنان​ حالياً، تمكن الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ من تحريك الجمود الذي كان يسيطر على الوضع اللبناني بعد ايام قليلة على كارثة ​انفجار​ مرفأ ​بيروت​، متسلحاً بدعم دولي قلّ نظيره منذ اشهر طويلة. الزيارة الاولى اثمرت التحريك، وها هي الزيارة الثانية تثمر الكشف عن اسم رئيس حكومة جديد. الكثيرون يعتبرون ان ماكرون لن يغادر لبنان هذه المرة قبل وضع الاسس الكفيلة بتسريع تشكيل ​الحكومة​، والبدء بخطوات ايجابية لنقل البلد من حالة الى اخرى، او على الاقل تقديم بادرة ايجابية للمرة الاولى تكسر رقم غياب الايجابيات السائدة منذ قرابة ​السنة​.

ولكن في لبنان، التكليف شيء والتأليف شيء آخر، ولان الرئيس الفرنسي يدرك هذا الامر تماماً، فهو سيضع كل الاسس لخرق هذه ​القاعدة​، فيتم ​تأليف الحكومة​ في وقت سريع، في ظلّ الاتفاقات والتفاهمات التي تكون قد ارسيت مسبقاً بغطاء دولي واسع. في ذكرى مئوية لبنان الكبير، عادت ​فرنسا​ لتحتفل بالمناسبة بطريقة ذكية، وعرف رئيسها كيف يقطف ثمار النجاح من بستان الخيبات اللبنانية. انه وقت الحصاد الفرنسي، بعد ان عرفت ​باريس​ كيف تثبّت رجليها في لبنان، وابعاد كل الذين فتحوا شهيّتهم، ليس على الدخول الى بيروت لانهم موجودون فيها بالاصل، بل لتوسيع مدى نفوذهم في هذا البلد، فتدخل ماكرون ليعلن للملأ ان "الامر لي" في لبنان، وفرنسا هي ​الدولة​ العظمى التي تتولى شؤونه مباشرة، رغم كل التواجد الغربي في مطبخه.

ولم تكن كلمات ​وزير الخارجية​ الفرنسي جان ايف لودريان التي قالها في مقابلته الاخيرة في ما خص "الخطر من اختفاء لبنان"، زلّة لسان او مجرد كلمات تحذيرية، بل هي اكثر دلالة على الاهتمام والتحرك الفرنسي العاجل، وصادرة عن رأس الدبلوماسية الفرنسية الذي يعرف تماماً ما يقول. واختفاء لبنان يعني بكل بساطة اختفاء الصيغة المتعارف عليها عنه في المنطقة، اي بمعنى آخر، هناك عمل كان يجري لاعادة رسم خريطة النفوذ السياسي للبلدان في المنطقة، وشعرت فرنسا انها ستكون مجرد دولة اجنبيّة في المطبخ اللبناني، بدل ان تكون الطاهي الرئيسي، فسارع رئيسها الى التأكيد على ان مرور مئة عام على اعلان لبنان الكبير لا تعني بأي حال، السماح بسلب فرنسا نفوذها والتقليل من تأثيرها عليه.

وفي هذا المعنى، يمكن فهم ما يقال في الكواليس والعلن، من ان الحكومة المقبلة ستكون "حكومة ماكرون الاولى" بحيث ان نجاحها قد يعني ارتياح فرنسا من بذل جهود مضنية في سبيل تأمين الابقاء على وضعها دون تغيير في لبنان، والا سيكون عليها العمل بجهد اكبر للحفاظ على مكاسبها فيه، وكف يد التحركات الخارجية اكانت اقليمية او دولية، لـ"وراثتها" واقتسام نفوذها السياسي الذي ظلت محافظة عليه على مدى مئة عام من الزمن، ووسط كل ما شهده ​العالم​ ولبنان من تغييرات قلبت الصورة الجغرافية والديموغرافية والسياسية.

ويبقى معرفة مدى رهان ماكرون على نجاح تحركه لتشكيل حكومة سريعة منتجة، او انتظار وقت اضافي لتتشكل حكومة تحظى بدعمه، ومن خلاله بدعم دول العالم، للعودة الى ما كنا عليه، واسترجاع النمط نفسه الذي سار عليه البلد منذ مئة عام الى اليوم. فأيّ انتخابات ستحسم الوضع اللبناني؟ هل ستقبل الادارة الفرنسيّة بانتظار موعد ​الانتخابات​ الرئاسيّة الاميركيّة؟ ام انها ستحاول استثمار ما ستحقّقه من الوضع اللبناني لضمه الى "انجازاتها" قبل نحو سنة على موعد انتهاء ولاية ماكرون؟ انه عصر السرعة، وتبدو فرنسا مستعجلة لفرض اهدافها في لبنان، فهل ستبصر حكومة ماكرون الاولى النور قريباً؟!.