عندما نفّذت ​باريس​ تصميم دولة "​لبنان​ الكبير" بعد فرز وضم، لم يرد الفرنسيون أنفسهم ترسيخ نظام مدني في جسم البلد الوليد. كانت ​الجمهورية​ الثالثة الفرنسية آنذاك تُجاهر بأنّ "​العلمانية​ ليست للتصدير" إلى منطقتنا المشرقية. لا بل كان رُعاة تلك الجمهورية يبعثون ارساليات تعمل في ميادين كنسية وتربوية وصحية لفرض نفوذ ​فرنسا​ في لبنان و​سوريا​، ويمنعون تلك الهيئات والرهبانيات من العمل في بلادهم. هم أرادوا بناء دولة فرنسية علمانية، لم يقبلوا ان تصل مفاعيلها الى المستعمرات الفرنسية، وخصوصاً في الشرق، لا سيما الدول التي هي تحت إنتدابهم.

لماذا؟ سؤال خضعت أجوبته لنقاشات مطوّلة، وفرضيات، وجدل طويل، لم ينته منذ مئة عام، أي منذ اعلن الجنرال هنري غورو دولة لبنان الكبير في الأول من ايلول ١٩٢٠ بإتجاهين: تثبيت دور المسيحيين في لبنان الذي يشكّلون غالبية فيه، ويكون رئيسُ الجمهورية منهم. فكان إنشاءُ الجمهورية اللبنانية عام ١٩٢٦ وتعيين ​شارل دباس​ المسيحي الارثوذكسي رئيساً، تلاه رؤساء من ​الموارنة​.

لكن لبنان دار منذ عقود في فلك طرح الخروج من النظام الطائفي نحو ​الدولة المدنية​. جرت محاولات عدّة في مراحل متدرّجة في الحرب والسلم. لكنها كانت تُؤطر في أغلفة طائفية، سرعان ما تُجهض الطرح.

لم يرتح لبنان منذ اعلان ولادته. خاف منه غالبية المسلمين الذين كانوا يريدون توسيع الكيان ليكونوا جزءاً من سوريا. بينما كان معظم المسيحيين يسعون لتصغير مساحته إلى حدود تسويق ​الفدرالية​. لم يندمج ​المسلمون​ مع دولة "الكبير" الا بعد أكثر من عشر سنوات من الجفاء، فبدأت العقدة بالتفكك تدريجياً عام ١٩٣٣. كرّت بعدها أزمات النظام الوليد التي غطّاها حدث ​الإستقلال​ عام ١٩٤٣، وما لبثت ان أطلت في صراعات تمددت، وصولاً إلى "ثورة ١٩٥٨" على وقع الوحدة بين مصر وسوريا وانقلاب العراق على الملكية وانزال الاسطول السادس في ​بيروت​. بالتزامن كانت أفكار التحرر والمدنية والمواطنة تطلّ في مشاريع مفكرين مسيحيين في لبنان نفسه والإقليم، كان أبرزهم مؤسس فكرة "البعث العربي الإشتراكي" ميشال عفلق، ومؤسس القومية السورية الإجتماعية أنطون سعادة الذي دفع حياته ثمن طروحاته السياسية التي حاولت الإنقلاب على نظام طائفي، لكنها فشلت.

وعندما كان أسّس الراحل ​كمال جنبلاط​ حزبه "​التقدمي الإشتراكي​"، حلّت بعدها الهواجس الطائفية أيضاً، لإعتبارات مسيحية كان سبق واظهرها الراحل ​بيار الجميل​ في أفكار "كتائبية"، زادت قلقاً بعد وصول منظمة "التحرير الفلسطينية"، وتحالفها مع "​الحركة الوطنية​" التي قابلتها "الجبهة اللبنانية".

كل ذلك رسّخ النظام الطائفي الذي فرضته فرنسا في "لبنان الكبير"، إلى حين الإنفجار في حرب إمتدت من عام ١٩٧٥ حتى تعديل ​الدستور​ في ​مؤتمر​ "الطائف". لكن لم تُطبّق كلّ بنود الدستور المعدّل حتى الآن. مما جعل المطالبة بتغيير النظام أولوية على اساس ان علة البلد هي في طبيعة النظام القائم الذي يمنع المحاسبة والمساءلة والشفافية، ويشرّع ​الفساد​ والهدر. هذا ما أقرّ به رئيسا الجمهورية و​مجلس النواب​ ​ميشال عون​ و​نبيه بري​.

شكّل تبني طرح المدنية في كلمة عون بذكرى مئوية لبنان، وخطاب بري في ذكرى تغييب الإمام السيد ​موسى الصدر​ ورفيقيه، اساساً. فهل يكفي إيمان كل من عون وبري بالدولة المدنية لفرضها؟.

يُعرف عن رئيس ​المجلس النيابي​ سعيه سابقاً لتأليف الهيئة الوطنية لدراسة السبل الآيلة لإلغاء ​الطائفية السياسية​، لكن طرحه الدستوري أُجهض مرات عدة. هنا يروي نائب رئيس المجلس ​ايلي الفرزلي​ عن تلك المساعي التي واجهها ملوك ​الطوائف​، فأطاحوا بها. لكن بري يجدد الآن مساعيه، ليتلاقى معه طرح عون الجوهري في هذا المجال.

قد يكون تصريح الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ في الزيارة الماضية، حول عقد سياسي جديد يؤدي إلى تغيير ​النظام اللبناني​، شجّع عون وبري لإستنهاض الهمم الوطنية. مما يعني ان الفرنسيين يسعون هذه المرة لتسويق ما رفضوه عام ١٩٢٠. هكذا ينقلب ماكرون الذي كاد ينقل بلاده الى الجمهورية السادسة، على وصايا الجمهورية الفرنسية الثالثة. هو لا ينتقم من اسلافه، بقدر ما هو يحاكي واقعاً لبنانياً جديداً.

واذا كان الفرنسيون القدامى أرسلوا الإرساليات والرهبانيات ومنعوا تصدير العلمانية الى لبنان لعدم سحق خصوصية مسيحية، فإن ماكرون بات يعلم ان مصلحة المسيحيين باتت في دولة مدنية لا طائفية. لأن أعداد المسيحيين يوم تأسيس الكيان اللبناني كانت تفوق أعداد غيرهم من الطوائف. لكن الأعداد تراجعت بعد مئة عام، وباتت تهدد الدور المسيحي في الشرق. فلا بدّ من الحفاظ على ذاك الدور من خلال نظام مدني يحمي وجودهم ونوعية نخبوييهم.

ينقلب ماكرون على تعاليم الجمهورية الثالثة، لكنه يحافظ على الهدف نفسه.

مما يعني ان دفن النظام اللبناني بحلّته الطائفية، بدأ الآن على أيدي القابلة التي أخرجته الى ​الحياة​ منذ مئة عام. لا بد لحدوده ان تبقى. ولا بد لعنوانه أن يستمر كما قال الإمام الصدر يوماً وترسّخ بنداً في الدستور: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.