على عتبة المئويّة الثانية لإنشاء ​لبنان​ الكبير يتأكّد مرة إضافية انّ لبنان بحاجة الى وصاية أو رعاية خارجية ظهر أنه بحاجة اليها لأجل إدارة نفسه وتدبير شؤونه. لبنان الذي فشل في إنشاء الدولة القادرة العادلة على يد طبقة سياسية وراثية او تسلطية، طبقة فشلت في بناء دولة، لكنها نجحت في نهب ​المال​ العام وإفساد ما بُني من مؤسسات وتعطيل النمو وتهجير ​الشباب​ و​الكفاءات​ ووضعت لبنان في هاوية الانهيار، حتى باتت عبارة «الدولة الفاشلة» تبدو أنها تلطف التوصيف لأن الحقيقة أقسى.

في ظلّ هذا الوضع المأساوي وبعد 15 سنة من انكفاء سورية، عادت ​فرنسا​ إلى لبنان وهي التي كانت قد أنشاته في العام 1920 ووضعت له دستوره وحدّدت له نظامه السياسي، عادت فرنسا لتقول إنّ النظام الذي وضعته ورغم ما أجري عليه من تعديلات في ​اتفاق الطائف​ في العام 1989، انّ هذا النظام المعدّل فشل في إنشاء دولة وانّ لبنان بحاجة الى عقد سياسي جديد ينقضه ويؤسّس لدولة قادرة على الاستمرار.

بيد أنّ فرنسا التي توصي بهذا التغيير الذي بات لا بدّ منه، تدرك انّ لبنان في وضعه الراهن لا يمكن ان ينتظر التغيير، وليس لديه ترف الوقت للبحث عن نظام جديد، وهي لا تستطيع ان تتجاوز المأساة اللبنانية القائمة والتي تنذر على حدّ قولها باختفاء لبنان، وعندها لا يبقى دولة للبحث عن نظام لها، ولذلك يبدو أنّ فرنسا وضعت خطة إنقاذ لبنان على مرحلتين: مرحلة انتقالية لتعويم لبنان قبل غرقه واختفائه، ومرحلة إعادة ​البناء​ وفقاً لنظام سياسي جديد بات معظم من في لبنان يجاهر بوجوب البحث عنه كما فعلت مرجعيات سياسية ودينية لبنانية كان آخرهم بالأمس ​الرئيس ميشال عون​ الذي دعا أو تبنّى الدعوة الى قيام ​الدولة المدنية​، والرئيس ​نبيه بري​ الذي نعى النظام الطائفي وأكد على الدولة المدنية، و​السيد حسن نصرالله​ الذي دعا أو أيّد الدعوة الى مراجعة نظام سياسي بما يتوافق جميع اللبنانيين عليه.

وعلى ضوء ذلك يجب أن تقرأ عملية تكليف الدكتور ​مصطفى أديب​ الأكاديمي الناجح والدبلوماسي النشط والآتي من خارج الطبقة السياسية الفاشلة الناهبة، تكليفه بتشكيل حكومة انتقالية مهمّتها الأساس وقف الانهيار وإجراء إصلاحات من شأنها وقف النزف وإحياء ثقة الخارج بلبنان من أجل مدّ يد المساعدة له. أما مرحلة البناء الفعلي فطبعاً لن تكون على يد هذه ​الحكومة​ التي لا تملك الوقت الكافي وهي فترة 18 شهراً تفصلها عن ​الانتخابات​ في موعدها العادي هذا إذا لم يُصَرْ الى انتخابات مبكرة كما يطالب البعض.

وهكذا… وبعد شهر من تصدّي فرنسا علانية للإمساك بالملف اللبناني، نجحت في خطواتها الأولى في إحداث تغيير في الحكومة بدءاً بتكليف رئيس حكومة توافقي جاء من خارج الطبقة السياسية وهو رغم كفاءته ما كان له أن يكون في هذا الموقع لولا الضغط الفرنسي الذي أبعد الطبقة السياسية وعجز السياسيّون عن مقاومته.

ورغم كلّ ما أعلن حول التسمية وآليتها فإنها ومع احترامها للشكلية الدستورية سجل فيها ان ابتدعت عرفاً دستورياً جاهر أصحابه به اعترف بموجبه لمن يعتبرون أنفسهم ممثلي ​الطائفة السنية​ في لبنان، بالحق باختيار 3 أسماء لاختيار رئيس الحكومة من قبل المكونات الأخرى لكن حتى في هذه المسرحية لم يستطع المعنيون أن يخفوا دور الإرادة الخارجية في التعيين تأكيداً مرة أخرى على حاجة لبنان الى من يأخذ بيده، نقول هذا مع تأكيدنا على كفاءة من تمّ تعيينه والذي تكرّرت فيه الإيجابية التي سجلت في تكليف الرئيس ​حسان دياب​ الآتي من خارج الطبقة السياسية أيضاً. وهذا إيجابية هامة لا يمكن تجاوزها.

انّ خطوة تعيين الرئيس لمكلف بهذا الشكل تشير الى انّ قرار من بات يمسك بالملف اللبناني هو قرار جدّي لا يسمح فيه بالمناورة او المماطلة والتسويف، كما اعتادت الطبقة السياسية في لبنان، فهو بعد أن أشار ومن على عتبة قصر الصنوبر مقر سفيره في لبنان بوجوب قيام حكومة تحفظ او تراعي الوحدة الوطنية استقالت خلال 72 ساعة الحكومة التي كانوا يصفونها بأنها حكومة الفريق الواحد، وعندما أشار بوجوب عدم تكليف أحد من الأحزاب السياسية او ممن كان وزيراً سابقاً أو رئيساً سابقاً للحكومة، امتثل من وصف بأنه صاحب حق التسمية وانصاع، وجيء بأكاديمي دبلوماسي من خارج الطبقة السياسية ليكلف بتشكيل لحكومة.

والآن يتابع الأمر باختيار الوزراء ثم في برنامج عمل الحكومة. حيث تصرّ جهة الرعاية على مطلبين حدّدتهما، أوّلهما ان تحمل الحكومة العتيدة صفة الوحدة الوطنية من دون ان يعني ذلك حتماً مشاركة الأحزاب السياسية فيها بل تريد ابتعادها عنها كما أبعدت عنها في الرئاسة وان تكتفي تلك الأحزاب بتأييد الحكومة من دون أن يكون وزراؤها ممن يشكلون استفزازاً لأحد أو أن تكون خاضعة بشكل أو بآخر لإملاءات فريق أو آخر ويخاصمها الآخرون. حكومة تتوفر لها موافقة الأكثرية الساحقة التي تتشكل من تنوع وطني واسع كما حصل في التكليف (90 من 120 نائباً).

نقول هذا رغم علمنا بأنّ الأمر سيصطدم بموقف من يعمل بالقرار الأميركي في لبنان، الطرف الذي لا يمكنه أن يُظهر فرنسا صاحبة القرار والطليقة اليد في لبنان، ولذا سيجد نفسه مضطراً للبقاء خارج التوافق والتسوية ويرفض منح الأكثرية القائمة فرصة الحكم المستقرّ المنتج وجلّ همّه سيكون الإطاحة ب​المجلس النيابي​ الحالي والذهاب لانتخابات مبكرة قيل له او يظنّ أنها ستعطيه الأكثرية المطلقة من النواب المسيحيّين ما يجعله قادراً على الإمساك بالأكثرية النيابية حسب ظنه.

سيكون هذا خلافاً لما قيل من تفويض أميركي لفرنسا بالملف حيث يبدو انّ الأمر غير متحقق بشكل قطعي وان جلّ ما يمكن القول هو انّ ​اميركا​ المنشغلة بانتخاباتها وبملفات أخرى في المنطقة تركت فرنسا تقلب أوراق الملف اللبناني لفترة محدّدة من دون أيّ دعم ودون عرقلة جدية مع الاحتفاظ بأوراق تستعملها عبر من هم ملتزمون بقرارها في لبنان والذين يركزون على مسألة ​المقاومة​ وسلاحها قبل أيّ شأن آخر، فهذا ما يعني ​أميركا​ التي تعمل لمصلحة «إسرائيل» ولا يعنيها من لبنان أكثر من البحث عن تلك المصالح.

وعليه نرى انّ فرصة إنقاذ لبنان وفقاً للمبادرة الفرنسية فتحت الآن، لكنها فرصة مقيّدة بالوقت الضيّق الذي يُقاس بالأيام والأسابيع، ونعود ونؤكد بانّ هذه الحكومة هي «حكومة تعويم لبنان» حتى لا يموت غرقاً، ولا طريق لتعويمه إلا بما بات مسلماً به، والمحصور بإصلاحات إدارية ومالية سريعة تحيي المؤسسات وتعيد المال المنهوب وتوفر لقمة العيش للمواطن وانّ هذا لا يتمّ على يد من ارتكب او يُشتبه به انه مرتكب فساد او سرقة، لذا يجب ان يأتي الوزراء على شاكلة رئيسهم ومن صنف وطبيعة الوزراء الناجحين في ​حكومة حسان دياب​ وان تستقيل الطبقة السياسية خلال عمل هذه الحكومة من مهام ​الفساد​ والنهب و​المحاصصة​ وتترك الحكومة تعمل للإنقاذ، حيث انّ فرصة الإنقاذ هذه هي الأخيرة كما يبدو ويتردّد على لسان كلّ متابع. فإذا نجحت هذه الخطوة بالتعويم ينجو لبنان وتنطلق حكومة ما بعد الانتخابات في رحلة البحث عن نظام عصري جديد يقيم الدولة القوية العادلة… وإن فشلت يكن على كلّ معني بالشأن ان يتدبّر أمره بما يحفظ وجوده وحقوقه ومصالحه.