على وقع ​الأزمة​ الماليّة والإقتصاديّة، التي فاقمها الإنفجار الذي حصل في مرفأ ​بيروت​ في الرابع من شهر آب المنصرم، طغت على النقاشات السياسية في البلاد الدعوات إلى تطوير أو تعديل النظام السياسي، والذهاب نحو الدولة المدنيّة بهدف الخروج من النظام الطائفي، لكن مع مفارقة لافتة تكمن بأن الداعين إلى ذلك هم أركان هذا النظام نفسه، الأمر الذي يتطلّب الوقف عنده مطولاً.

من حيث المبدأ، هذه الدعوات لم تأتِ من فراغ بل جاءت على وقع كلام الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، خلال زيارته الماضية إلى بيروت، عن ضرورة الذهاب إلى ميثاق سياسي جديد، رغم اللغط الذي أثاره هذا الموقف من قبل الزائر الباريسي، الذي تولى، في الأيام الماضية، رعاية تسمية رئيس ​الحكومة​ المكلف الجديد ​مصطفى أديب​، ويسعى إلى رعاية ​تأليف الحكومة​ وبرنامجها الوزاري بشكل أو بآخر.

بعيداً عن الدور الفرنسي المستجد، من الضروري الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يطرح فيها الذهاب إلى ​الدولة المدنية​ من قبل الأفرقاء المحليين أنفسهم، رغم أن الدعوات في الماضي كانت تتلخص بتطبيق ​إتفاق الطائف​ أو إلغاء ​الطائفية السياسية​، لكن سرعان ما كانت تتلاشى أمام ظهور معطيات جديدة على المسرح السياسي، فظهورها في الأصل مرتبطا بوجود أزمات من العيار الثقيل، حيث تستخدم على قاعدة الهروب إلى الأمام، أو إلهاء المواطنين بها في الفترة الفاصلة عن الوصول إلى تسوية جديدة تعيد إنتاج الطبقة السياسية نفسها وفق القواعد الطائفية والمذهبية المتعارف عليها من قبل أركانها.

في هذا الإطار، ينبغي التنبه إلى نقطة أساسية في هذا المجال، تكمن بالشروط والشروط المضادة الموضوعة من قبل هؤلاء، فعلى سبيل المثال عند طرح فكرة الذهاب نحو الدولة المدنية من قبل بعض الأفرقاء، لا يكون رد الأفرقاء الآخرين الرفض المباشر، بل على العكس من ذلك يبدون حماسة كبيرة لذلك، لكن مع وضع شرط إضافي يتعلق بإقرار ​الزواج المدني​ الإلزامي وقانون موحد للأحوال الشخصية، في حين أن الجميع يدرك صعوبات إقرار الزواج المدني الإختياري، لإدراكهم أن هناك من سيرفض هذا الأمر بالمطلق، وبالتالي النتيجة ستكون إبقاء الواقع الراهن على حاله.

ما تقدم، يقود إلى أن أصل طرح الفكرة من قبل أركان النظام السياسي الطائفي هدفه تحسين شروطهم في أيّ تسوية جديدة في ما بينهم، نظراً إلى أن وجودهم الفعلي مرتبط بوجود هذا النظام، القائم على تقسيم المواطنين إلى جماعات طائفية ومذهبية، يتولى كل منهم تمثيل جماعته في هذا النظام من خلال ربط وجودها بوجوده، فلا حقوق لها أو واجبات عليها إلا عبره، الأمر الذي يتماهى مع معادلة "التخويف" من الآخر، أيّ الجماعة أو الجماعات الأخرى، التي تسعى إلى الإنقضاض على حقوق جماعته، الأمر الذي يتطلب دعمه والإلتفاف حوله لمنع ذلك.

في المقابل، يؤمّن أركان هذا النظام لرعاياهم الحماية، التي تبدأ من تأمين الوظائف في الإدارات والمؤسسات العامة عبرهم، ولاحقاً حمايتهم من الملاحقة عن أيّ إرتكابات قد يقومون بها من خلال الخطوط الحمراء التي يرفعونها، ولا تنتهي عند "البطاقات" التي يحملونها للدخول إلى ​المدارس​ والجامعات أو ​المستشفيات​، بل تشمل أيضاً "كراتين" الحصص الغذائيّة التي تقدّم في الأزمات الإقتصادية والإجتماعية.

في المحصّلة، الدولة المدنيّة هي رصاصة الرحمة التي من الممكن أن تطلق على رأس أركان النظام الطائفي الحالي، لكن الأكيد أن هؤلاء لن يتولوا إطلاقها بأنفسهم بل يطرحون الفكرة لإفشالها أو إسقاطها أو المساومة عليها، مع العلم أن بناء هذه الدولة يفترض أن ينطلق من الأفراد أيضاً، عندما يدركون المطلوب منهم بأن يكونوا مواطنين في دولة لا رعايا ضمن قبائل مذهبية وطائفية.