تقاطعت خلال الأيّام القليلة الماضية سلسلة من التصاريح التي تدعو إلى قيام دولة مدنيّة هنا، وإلى الإتفاق على عقد سياسي جديد هناك، وإلى المُشاركة في مؤتمر تأسيسي مُجدّدًا هنالك، إلخ. فهل نحن على أبواب هذا النوع من التغيير الميثاقي الكبير والجذري؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ كل هذه الطُروحات وسواها، أكان الجديدة أم القديمة منها، تنطلق من أهداف مُختلفة وحتى مُتناقضة في كثير من الأحيان، حيث أنّ عبارات "دولة مدنيّة" و"دولة علمانيّة" و"عقد سياسي" و"مؤتمر تأسيسي" وسواها، مطّاطة جدًا، ويُمكن بالتالي أن تحمل العديد من المعاني والتفسيرات، ويُمكن حتى أن تتضمّن العديد من أحلام اليقظة التي تُراود بعض القوى والشخصيّات! وهذه الدَعوات على طوباويّتها في الشكل، تتراوح في المَضمون بين أهداف مَصلحيّة ضيّقة وقصيرة النظر للبعض، على غرار كسب المزيد من الأصوات وُصولاً إلى موقع رئاسة الجُمهوريّة مثلاً، وأهداف إستراتيجيّة كُبرى للبعض الآخر، من شأن تطبيقها أن يُغيّر وجه ​لبنان​ للأبد، على غرار إستبدال الديمقراطيّة التوافقيّة المُشكو منها، بديمقراطية الأكثريّة–ولوّ بشكل مُقنّع!.

بالنسبة إلى تناقض الأهداف والغايات من مُختلف هذه الدَعوات المَذكورة أعلاه، الأمثلة كثيرة على ذلك، ومن ضُمنها مثلاً أنّ "التيّار الوطني الحُرّ" يريد الذهاب إلى تطوير النظام الحالي، بهدف تعديل جُملة من البُنود التي له مآخذ عليها، وكانت قد أُقرّت في "​إتفاق الطائف​" قبل ثلاثة عُقود، وفي طليعتها إستعادة سُلطات موقع رئاسة الجمهوريّة. من جهة أخرى، إنّ "تيّار المُستقبل" يتقاطع مع مُختلف الجهات السنيّة الأخرى، أكانت مَحسوبة على قوى 8 أو ​14 آذار​ السابقة، على الإحتفاظ بالمكاسب التي كانت الطائفة السُنيّة قد نالتها في "إتفاق الطائف" من دون أيّ تغيير، لأنّ أيّ تعديل لها في ظلّ توازن القوى المحلّي والإقليمي الحالي، يعني سحب سُلطات وصلاحيّات من رئيس الحُكومة السُنّي، ومنحها لطوائف ولمذاهب أخرى.

أمّا "​الثنائي الشيعي​" فيريد بدوره إلغاء الطائفيّة السياسيّة، لأنّه بكل بساطة الأكثر عددًا والأكثر تنظيمًا، والأوسع نُفوذًا بفارق كبير–خاصة عند إضافة القوى التي تدور في فلكه إلى قُوّته الذاتيّة، ما يسمح له بتمرير أيّ قرار وأي مشروع وأيّ تصويت، بمُجرّد سحب عقبة الموانع الطائفيّة والمذهبيّة من أمامه. ويُحاول "الثنائي" بشتّى الوسائل في المرحلة الأخيرة، الوُصول إلى قانون إنتخابي من دون قيد طائفي، أو إلى قانون إنتخابي وفق دائرة واحدة أو دوائر موسّعة جدًا، وفي كل الأحوال تكون النتيجة واحدة، وتتمثّل بسيطرة الأغلبيّة العدديّة على الأقليّة العدديّة، أيّ سيطرة ​الطوائف​ والمذاهب الكُبرى على الأقليّات الصُغرى، أكانت دُرزيّة أم أورثوذكسيّة أو كاثوليكيّة أو حتى مارونيّة! وعلى الرغم من نفي هذا "الثُنائي" السعي إلى تطبيق المُثالثة في الحُكم، فإنّ تمسّكه ب​وزارة المال​، للإحتفاظ بالتوقيع الشيعي–إذا جاز التعبير، على القرارات المُهمّة، إلى جانب توقيعي رئيس الجمهوريّة الماروني ورئيس الحكومة السُنّي، يؤكّد حرصه على المُثالثة في هذا النظام الطائفي الحالي.

والحديث عن دولة مدنيّة وعلمانيّة، وبالتالي عن تصويت مدني علماني، هو خدعة كبيرة، والدليل وجهة التصويت الطائفي والمذهبي خلال الإنتخابات النيابيّة الأخيرة. وفي هذا السياق، أظهرت الإحصاءات التقييميّة التي أجريت في ختام إنتخابات العام 2018 النيابيّة، إتجاهًا واضحًا للتصويت الطائفي والمذهبي في أغلبيّة الدوائر الإنتخابيّة، خاصة على مُستوى "الصوت التفضيلي"، في دليل آخر على الإنغلاق الديني الذي يُرافق كلّ اللبنانيّين، مع إستثناءات قليلة.

والتباين في الآراء والأهداف، لا يقتصر على القوى السياسيّة الأساسيّة فحسب، بل يشمل أيضًا الجهات الدينيّة التي تقف في خندق واحد بوجه إقتراح "​الزواج المدني​" مثلاً، والذي كانت جرت أكثر من مُحاولة لتمريره في السابق، وكان مصيرها كلّها الفشل، بسبب توحّد المراجع الطائفيّة والمذهبيّة على مُعارضته، علمًا أنّ قانون الأحوال الشخصيّة الخاص ببعض الطوائف والمذاهب يقف أيضًا حجر عثرة أمام تطبيق مفاعيل "الزواج المدني". والمواضيع الخلافيّة لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي تبدأ بالنظام من أساسه، وتمرّ ب​قانون الإنتخاب​، وتصل إلى مسائل مثل ​السلاح​ غير الشرعي!.

في الخُلاصة، إنّ الحديث عن دولة مدنيّة علمانيّة هو شعار برّاق، لكنّ الوُصول إلى هذا الهدف المُنشود مُستحيل حاليًا، لأنّ الإنقسامات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة في أشدّها، ولأنّ الذهاب إلى طاولة تفاوض في ظلّ تحصّن البعض بسلاحه يُفقد الحوار توازنه، ناهيك عن أنّ الشعارات والصرخات الطائفيّة والمذهبيّة التي تُرفع هنا وهناك، عند أصغر إحتكاك، تؤكّد بُعد شرائح واسعة من المُجتمع اللبناني عن مَفهوميّ الوطنيّة والعلمانيّة! والحديث عن تغيير أو عن تعديل النظام في ظلّ الظُروف الراهنة، غير منطقي أيضًا، لأنّ المشاكل القائمة كثيرة أصلاً، ولأنّ الخلافات مُتشعّبة، وخُصوصًا لأنّ توازن القوى محليًا وإقليميًا مَفقود كليًا، الأمر الذي يسمح للقويّ بفرض شروطه على الضعيف، إلا إذا كان الهدف هو إستغلال هذه الثغرة لفرض تغييرات لصالح قوى طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة مُحدّدة، على حساب قوى طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة أخرى!.