على عكس المثل القائل بأن آخر الدواء الكيّ، عاشت الازمة ال​لبنان​ية في احدث مسلسلاتها مرحلة مختلفة، تبيّن معها ان آخر الدواء هو الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​. لا يمكن لاحد ان ينكر ان تحركه المكوكي والمتقارب في الوقت (زيارتان الى لبنان في اقل من شهرين)، وبغض النظر عن المصالح التي حقّقها ان على الصعيد الشخصي (تعزيز شعبيته وترسيخ نفوذه كرئيس وضمان المصالح الاقتصاديّة الفرنسيّة)، او على الصعيد العام (الابقاء على النفوذ الفرنسي في منطقة الشرق الاوسط في ظلّ هجمة الدول على تناتش النفوذ في عدد من البلدان، فضلاً عن المواجهة المتحدمة مع ​تركيا​)، لا بدّ من الاعتراف انه لولا هذا التدخل وبالشكل الذي حصل، لكانت معاناتنا السياسية والاقتصادية ستمتد الى ما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية وحتى ينجلي الغبار عن المنافسة بين الرئيس الحالي ​دونالد ترامب​ ومنافسه الديمقراطي ​جو بايدن​ وتحضير برنامج جديد للادارة الجديدة (اكانت لبايدن او لترامب في ولايته الثانية) للتعاطي مع قضايا المنطقة و​ايران​ و​اوروبا​ و​روسيا​ وغيرها...

استطاع ماكرون كسر هذا الجمود الذي خيّم على لبنان منذ 17 تشرين الأول من العام الفائت، علماً ان الحركة التي هزّت هذا الجمود كانت سلبية بغالبيتها من المواجهات في الشارع، الى الوضع السياسي المتدهور، الى ​انفجار بيروت​ الذي كان طفح معه الكيل بالنسبة الى ​فرنسا​. فعل ماكرون في لبنان ما لم يستطع فعله في فرنسا، حيث تشدّد في الكلام مع السياسيين والمسؤولين، ووصل الى حدّ التهديد العلني بفرض العقوبات على لبنان، وهو أمر خطير كونه صادر عن رئيس فرنسا وليس عن أحد مسؤوليها او سفيرها. ولانه يدرك جيدا الوضع في لبنان وقد احاط بخلفياته وقدرات لاعبيه المحليين، ضرب ماكرون ضربته في لحظة انشغال الاميركيين بشؤونهم الداخلية، ووسط عدم ممانعة روسيّة وايرانيّة، بفضل التحرك الاوروبي تجاه ايران الذي وقف في وجه ترامب في الامم المتحدة، وفي غفلة من السعوديّة التي وقفت متفرّجة على ما يحصل دون القدرة على الحركة بسبب تعطّل الاتصالات مع الاميركيين، ومحاولتها استيعاب ما يحصل من "تمرّد" خليجي حول نفوذها (التطبيع بين ​الامارات​ و​اسرائيل​، وتنامي الحركة القطريّة على خطّ اسرائيل والفلسطينيين والّذي تجلّى اخيراً باتفاق هدنة بن حماس واسرائيل).

كل هذه العوامل تضافرت، في لحظة عرف الرئيس الفرنسي اختيارها بعناية، كما انّ حنكته الدبلوماسيّة جعلته ملمّاً بطبيعة اللاعبين اللبنانيين، فحرص على ان يتابع الموضوع شخصياً (وليس عبر مبعوثين او سفراء) وانتقل لهذه الغاية مرّتين في اقل من شهرين الى الربوع اللبنانية، واعلن انه سيعود بعد شهرين ليواصل المتابعة الحثيثة. وهذا ان دلّ على شيء، فعلى انه يلعب ورقته اللبنانيّة بأقصى ما تحتمل، وليس في وارد الخسارة او التراجع عنها، وهو امر مطمئن للبنانيين لناحية الجدّية والتمسّك بحبل النجاة من الغرق، انما وللاسف فإنّ هدفه الخروج من المرحلة الحاليّة والعودة الى المرحلة الماضية مع بعض التغييرات البسيطة بدل ان تكون التغييرات جذريّة. ولانّ ماكرون يعرف ما تخبّئه طبيعة لبنان السّياسية ورمالها المتحركة، فقد اعطى التطمينات اللازمة ل​حزب الله​ بأنّ موضوع سلاحه غير مطروح على الطاولة حاليًا، كما طمأن رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ ومن يعنيهم الامر بأنّ اجراء انتخابات نيابيّة مبكرة خارج اطار البحث.

وفي ظلّ هذه الحماسة الفرنسيّة، تبدو التحركات الاميركيّة مريبة، وهي الوحيدة التي يمكن ان تشكّل خطراً على مشروع ماكرون بعض الشيء، انّما لا يمكن استبعاد وضع الرئيس الفرنسي خطّة للتعاطي مع هذا الخطر قبل قيامه بالتحرك على الخطّ اللبناني، ليتفادى المواجهة دون ان يفقد زخم المبادرة.