على رغم تموضعهما في "خندقٍ" واحد نظرياً، من بوابة المعارضة التي شهدت "أوجها" في ظلّ حكومة حسّان دياب، إلا أنّ "افتراقاً" عاد ليُرصَد على أكثر من خطّ بين كلٍّ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​.

لعلّ "الاستقالة الجماعية" التي دفع "الحكيم" باتجاهها، بعد موجة الاستقالات "الشعبويّة" التي "حاصرته" في مكانٍ ما، تشكّل "نقطة" في "بحر" الافتراق بين الجانبين، بعدما وُعِد جعجع خيراً، فوَعَد بـ"موقفٍ كبيرٍ"، لم تتأخّر "فرملته" في الظهور.

لكن، أبعد من سيناريو الاستقالة، "استحقاقاتٌ" عديدة كانت "شاهدة" على هذا "الافتراق" أخيراً، لعلّ أبرزها الاستشارات النيابية لتسمية رئيس حكومة، حيث "التزم" جنبلاط بالاتفاق العام على اسم ​مصطفى أديب​، فيما ارتأى جعجع التغريد خارج سرب "الإجماع".

باختصار، اختار "البيك" الالتزام بـ"التسوية"، التي دفع باتجاهها الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، على حساب جعجع الذي وجد نفسه مرّة أخرى وحيداً، وسط "المعمعة"...

جنبلاط "مُربَك"؟!

ثمةّ من يقرأ خلف مواقف النائب السابق وليد جنبلاط، المتأرجحة بين الموالاة والمعارضة، "تضعضعاً" يرقى لمستوى "الإرباك" في أكثر من مكان.

خير دليلٍ على ذلك أنّ الرجل انتظر حتى اللحظة الأخيرة ليوافق على تسمية مصطفى أديب ل​رئاسة الحكومة​، بعدما كانت بعض الأوساط تتوقّع أن يصوّت، كما فعل في حالة حسّان دياب، لمصلحة السفير ​نواف سلام​، في "استراتيجية" اعتمدها جعجع هذه المرّة.

"الإرباك" نفسه تكرّر في الاستشارات النيابية التي أجراها رئيس الحكومة المكلّف في عين التينة. هنا أيضاً "تسرّعت" بعض الأوساط المحسوبة على "الاشتراكي" لتتحدّث عن نيّة كتلة الحزب النيابيّة مقاطعة الاستشارات، انطلاقاً من كونها "غير ملزمة" في الدستور، وباعتبار أنّ الحزب يدفع نحو حكومة اختصاصيّين، ويرفض المشاركة فيها.

عدل "الحزب" عن فكرة المقاطعة وما تحمله من "شعبويّة"، فشارك في الاستشارات، ليتكرّر "الإرباك" مجدّداً مع ما يتسرّب من مفاوضات التأليف، حيث ثمّة من يتحدّث عن إمكانية تراجع "البيك" عن عدم رغبته بالمشاركة في الحكومة، في حال "التوافق" على فكرة الحكومة المطعّمة بسياسيّين، وفق قاعدة أنّ ما يسري على الآخرين ينبغي أن يسري عليه بطبيعة الحال.

وفي حين يقلّل البعض من شأن هذا "الإرباك"، مشيراً إلى أنّ موقف "الحزب التقدمي الاشتراكي" هو دائماً في قلب أيّ "تسوية" تحصل، الأمر الذي تؤكّد عليه التجارب "التاريخية"، يذكّر آخرون بأنّ الحزب أصلاً كان من أول "المطبّعين" مع حكومة حسّان دياب نفسها، رغم عدم تسمية رئيسها، سواء من خلال تمثّله فيها بصورةٍ غير مباشرة، أو من خلال دفاعه عنها في أكثر من استحقاق، بوصفها "أفضل من الفراغ".

معركة على "المبدئية"؟!

بين "القوات" و"الاشتراكي"، تختلف المقاربات إذاً، وإن كان الجانبان يصنّفان نفسهما في موقع "المعارضة"، ليبدو المراقب لمواقفهما أمام "معركة" من نوعٍ آخر، عنوانها "المبدئية" أولاً وأخيراً.

فـ "المبدئيّة" هي التي ينطلق منها "القواتيون" في الدفاع عن معارضتهم المُطلَقة التي جسّدوها خير تجسيد بتسميتهم السفير نواف سلام في الاستشارات النيابية، خلافاً لـ"التسوية المُعلَّبة" على اسم مصطفى أديب، والتي تذكّر بتجارب "مَريرة" سابقة، لحكومات ما تسمّى "الوفاق الوطني" والتي يعتبرها "القواتيون"، بناءً على التجربة، حكومات "خراب وطني" بامتياز، وهي لم تجلب للبلاد سوى الويلات، على صورة الفساد والمحاصصة.

وفي وقتٍ يعتبر "القواتيون" أنّ الحلّ يبقى في الانتخابات أولاً وأخيراً، واليوم قبل الغد، لأنّ الانتخابات هي التي ستؤسّس لنظام سياسيّ جديد، فهم يرون، ومن منطلَق "مبدئيّ" أيضاً، أنّ المعارضة تتطلّب منهم نبذ منطق "التسويات" بكلّ أشكالها، وهم الذين لا يزالون يلملمون ذيول "الخيبة" التي أصابتهم بعد سقوط "تفاهم ​معراب​" الذي اعتقدوا أنّه سيكون "بوابتهم" نحو "جنّة ​السلطة​"، فإذا به يفعل العكس، نتيجة ما يعتبرونه "غدر" شريكهم فيه، "​التيار الوطني الحر​"، ممثلاً برئيسه الوزير السابق جبران باسيل، فضلاً عن رئيس الجمهورية ​ميشال عون​.

لكنّ هذه "المبدئيّة" تجد لدى البعض من يردّ عليها، بسلسلةٍ من "المفارقات" والأسئلة، تنطلق من "محلّها من الإعراب" في "تفاهم معراب" الشهير، والذي لم يتردّد "القواتيون" أنفسهم في فضح مضمونه في سياق "الحرب" التي خاضوها في مواجهة "الوطني الحر"، ليتبيّن أنّه كان قائماً بالكامل على "تقاسمٍ للمغانم" في ترجمةٍ حرفيّة لمفهوم "المحاصصة" الذي تُظهِر "القوات" اليوم حرصاً، مُبالَغاً به ربما، على التصدّي له، علماً أنّ هناك من يأخذ على دعاة "المبدئيّة" ما أعلنوه جهاراً يوم تبنّوا تسمية العماد ميشال عون ل​رئاسة الجمهورية​، أنّهم سيكونون "عرّابي الجمهورية" طيلة عهده، وأنّ "الفضل" الأول والأخير في وصوله يبقى لهم.

ويستغرب هؤلاء كيف يُعاتَب "الاشتراكي" على الالتزام بالتسوية، وعدم تسمية السفير نواف سلام في الاستشارات، كما فعلت "القوات"، في حين أنّ نواب "اللقاء الديمقراطي" كانوا المبادرين إلى تسمية الرجل، يوم كانت حظوظه أكثر ارتفاعاً بعيد انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول واستقالة حكومة سعد الحريري، فيما ارتأت "القوات" يومها الاكتفاء بـ "الامتناع عن التسمية"، علماً أنّ رفع أسهم سلام وقتها كان من شأنه "إحراج" قوى الأكثرية، بعكس الواقع مع مصطفى أديب، الذي أتى "محصَّناً" بدعمٍ من بيئته، و"مباركةٍ" من الخارج.

"أنتينات" وليد جنبلاط

انطلاقاً من التجارب التاريخيّة، ليس مُستغرباً أن ينضمّ وليد جنبلاط إلى "التسوية"، أيّ "تسوية" وفي أيّ زمانٍ ومكانٍ، هو الذي لطالما سعى إلى "تكريس" دورٍ لنفسه، ولبيئته، في السلطة، والذي لم يتأخّر يوماً في الدعوة إلى الحوار والتفاهم والتوافق.

ولعلّ الدليل الأسطع على ذلك اختيار جنبلاط "التمايز" في أيام عزّ "​ثورة الأرز​" التي لم يكن من مطلقيها وقياديّيها فحسب بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، بل كان "مُحرّكها" بشكلٍ أو بآخر، كما يوصَف في أوساطها على أنّه "الدينامو" خلفها.

وإذا كان كثيرون يربطون هذا "التمايز" بعلاقة جنبلاط المتينة برئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، والذي اعتبره في أكثر من محطة "حليفه الوحيد" في الساحة السياسية، بعيداً عن كلّ تحالفاته الموضعية الأخرى، فإنّ "المُستغرب" برأي هؤلاء كان ليحصل لو أنّ جنبلاط وقف في وجه "التسوية"، وليس العكس.

قد تكون هذه هي "المبدئية" في عيون وليد جنبلاط، ولو كان متّهَماً من الأقربين والأبعدين، بـ"استسهال" الانقلاب على نفسه ومحيطه، ولكنّها تعني الكثير، خصوصاً أنّ "انعطافاته الدوريّة" التي يُلام عليها، كانت دائماً مرتبطة بمتغيّراتٍ سياسيّةٍ يتّفق خصوم "البيك" أنّه يحسن التقاط "أنتيناتها" واستشرافها، ولو عن بُعد...