بين خطاب رئيس حزب "القوات ال​لبنان​ية" ​سمير جعجع​ في ذكرى "​شهداء المقاومة​ اللبنانية"، وردّ "​التيار الوطني الحر​ّ" العنيف عليه، أمرٌ واحدٌ يبدو محسوماً، وهو أنّ صفحة "تفاهم ​معراب​" طُويَت بالكامل، وبصورةٍ نهائيّة، وغير قابلة لـ"الاستئناف"، إن جاز التعبير.

قد لا تكون هذه الخلاصة بجديدة، باعتبار أنّ "التفاهم" انتهى منذ فترة طويلة، تحديداً منذ "فضح" بنوده، من باب "الشكوى" من عدم تنفيذها، ما مهّد لـ "​الطلاق​ السياسيّ" بين الحانبيْن، وتحديداً بين جعجع ورئيس "التيار الوطني الحر" ​جبران باسيل​، والذي امتدّ في مرحلةٍ لاحقةٍ ليشمل ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ نفسه.

إلا أنّ الجديد أنّ "طيّ الصفحة" لم يعد هو محور "الحدث"، لأنّ الطرفين انتقلا في "المواجهة" بينهما إلى فتح صفحةٍ جديدة، هي في الواقع سابقةٌ للتفاهم وطاغية عليه، ألا وهي صفحة "الحرب" التي بدت ترسّباتها أكثر من واضحة في خطاب الحزبيْن على مدى الأيام القليلة الماضية...

"طموحات وهَوَس"

بالنسبة إلى المتابعين، تكاد تكون كافية العودة إلى خطاب جعجع وردّ "التيار" وما تضمّناه من مصطلحاتٍ غير دبلوماسيّة ولا تقليديّة، للاستنتاج بأنّ أجواء "الحرب" عادت لتسيطر على "عقليّة" الجانبيْن، ولتفضح زيف "المصالحة" التي وُصِفت بـ"التاريخية"، والتي قيل إنّها "تعلو" على "تفاهم معراب"، فإذا بها تسقط عند الامتحان الأول.

في خطاب جعجع مثلاً، كلامٌ واضحٌ وصريحٌ، بعيداً عن "المهادنة" التي اعتمدها منذ تبنّيه ترشيح العماد عون ل​رئاسة الجمهورية​، يوم اعتقد أنّ ذلك كفيلٌ بتحويله إلى "عرّاب الجمهورية". صحيحٌ أنّ التصويب الأكبر لـ"الحكيم" كان من نصيب "​حزب الله​"، بعدما شملته "المهادنة" في مرحلةٍ ما، إلا أنّ "العهد" نال حصّته، بعدما اعتبر جعجع أنّ تفاهم "​مار مخايل​" الذي وصفه بـ"المشؤوم"، هو سبب كلّ الخراب والويلات التي حلّت على لبنان.

ولعلّ أكثر ما استفزّ "العونيّين" في خطاب جعجع تمثّل في "تحييد" نفسه عن ​السلطة​، على رغم أنه لم يخرج منها إلا بعد "​الانتفاضة​ الشعبية" التي حاول "ركوب موجتها" من دون أن ينجح، فإذا به يتوّعد من وصفهم بـ"أهل السلطة والتآمر و​الفساد​ والإهمال" بأنّه باقٍ "حتى التخلّص" منهم. أما حديثه عن "اتفاق معراب" فبدا برأيهم "مفتقداً للمنطق والحجّة في آن"، خصوصاً أنّ "الحكيم" حصره بـ"طموحٍ رئاسيّ" بات "واضحاً أنّه من يعيش هوَسه"، قبل أن يقع في "فخّ" إقحام "العمّ والصهر" في مقاربةٍ "لا تمتّ للأخلاق بصلة"، وفق "العونيّين".

ويتحدّث المقرّبون من "التيار" عن "أزمةٍ" يعيشها جعجع، وقد عبّر عنها بوضوح في خطابه، بعدما صبّ جام غضبه على "تفاهمٍ" بين طرفيْن لبنانيّيْن أبديا في مناسباتٍ عدّة "انفتاحهما" على إدخال أفرقاء آخرين إليه، في حين أنّ "مشكلته الحقيقية" كما يعرف القاصي والداني تتمثّل في "خروجه"، أو ربما "إخراجه" من التسوية السياسية، بعد "عجزه" عن تطبيق "أجندته" سواء عبر "مؤامرة" الاستقالة الجماعيّة التي لم يتجاوب معه فيها حلفاؤه المفترضون، أو ​الانتخابات​ المبكرة التي لا ينفكّ يطالب بها، فإذا بها تصطدم بـ"فيتو" خارجيّ قبل الداخليّ، باعتبار أنها ليست الأولويّة اليوم.

"وقاحة وتحريض... وميليشياوية"!

ما يقوله "العونيّون" في هذا السياق قد يكون مبرَّراً، فما فعله جعجع في خطاب الأحد من كسرٍ لـ"شعرة معاوية" التي بقيت تربطهما، ولو بصورةٍ نسبية، على رغم "الانفصال السياسي"، لم يكن ليمرّ مرور الكرام، ومن دون ردود فعلٍ من جانب "التيار" الذي بات يعتبر صراحةً "القوات" فاعلةً في ما يصفها بـ"المؤامرة" التي تستهدف "العهد" منذ يومه الأول.

لكن ما لم يكن "القواتيون" أو غيرهم يتوقعونه، تمثّل في الردّ العنيف وغير المسبوق الذي أصدره "التيار الوطني الحر" في بيانٍ رسميّ، لا عبر تسريبات ومصادر يمكنه إيصال الرسائل من خلالها، من دون أن تُلزمه بشيء. وقد تدرّجت المصطلحات التي اعتمدها "التيار" في ردّه، وتوصيفه لجعجع، من "السلبية والوقاحة والتحريض والافتراء"، إلى الحديث عن "طبع ميليشياوي يغلب القدرة على التطبّع مع ​السلام​"، وصولاً إلى "نشر الرعب وأعمال التخريب والترهيب".

بيد أنّ أكثر ما يتوقّف عنده المحسوبون على "القوات" في ردّ "التيار" يتمثّل في استعادته صراحةً ومن دون مواربة أدبيّات "الحرب" التي لا يبدو أنّ "العونيّين" تجاوزوها كما يدّعون، ليس فقط لكون "التيار" لا يزال يتّهم جعجع بـ"انتزاع حياة الناس واغتيال قادتهم"، كما ورد في البيان، ولكن أيضاً لغمزه من قناة "الشهداء"، بقوله إنّ "معظم شهداء المقاومة سقطوا على يديه (جعجع)، والأسماء معروفة، وقد وصلت به الوقاحة أن يذكر من ضمن الشهداء من هم ​ضحايا​ غدره".

وفي وقتٍ "يترفّع" المقرّبون من "القوات" عن "الانجرار إلى هذا المستوى" من الردّ، على حدّ ما يقولون، فهم يعتبرون أنّ بيان "التيار" يدين نفسه بنفسه، خصوصاً أنّ ​القيادة​ "ارتأت" الردّ على "نقدٍ سياسيّ" لا بتجريحٍ "شخصيّ" فحسب، ولكن عبر "نكء الجراح" الذي اتهم "العونيّون" جعجع بالقيام به، في مفارقةٍ مثيرةٍ للانتباه والاستغراب في آن، علماً أنّ أوساط "التيار" تردّ التهمة، مذكّرة بأنّ بيان الأخير هو "ردّ الفعل" لا "الفعل"، وهو لم يكن ليصدر أساساً لو أنّ جعجع لم "يحركش" في إطار بحثه عن "شعبويّة" يبدو أنّه في "أمسّ الحاجة" إليها.

مضحكة مبكية...

مضحكة مبكية تبدو الاتهامات المتبادلة بين "التيار" و"القوات". الطرفان "شريكان" في استعادة أدبيّات وترسّبات الحرب، لكنّ ​النقاش​ بينهما يدور حول "المتسبّب" بذلك.

يتقاذف الطرفان كرة المسؤوليّة. "التيار" يقول إنّ جعجع هو الذي "افتعل المشكل"، و"القوات" تقول إنّ بيان "التيار" وما تضمّنه من مصطلحاتٍ "مُسِمّة" يدلّ على "الفاعل".

"الفاعل" هنا، وهو معلومٌ لا مجهول، ينحصر برأي الحزبيْن بمن "بدأ"، لا بهبوط "مستوى" النقاش إلى هذا الدرك، ولا بـ"فضح" حقيقة أنّ "عقلية" الحرب لا تزال المسيطرة.

لكن، أبعد من كلّ ذلك، حقيقة جديدة "فضحها" الخلاف المستجدّ بين الجانبين، وتتمثّل في أنّ صفحة "الحرب" لم تُطوَ أصلاً لتُفتَح من جديد، تماماً كما "فضح" خلافهما السابق "خلفيّات" تفاهمهما الذي لم يكن قائماً سوى على فكرة "تقاسم المغانم"، وهو ربما سبب سقوطه التلقائيّ والسريع...