يشهد ​لبنان​ منذ مُدّة تدخّلاً غربيًا مُتصاعدًا، في ظلّ إنكفاء عربي واضح، مع إستثناءات مَحدودة. فما الذي يحصل، وأين يُمكن أن يقود هذا التدخّل الأجنبي، وهل هو لمُساعدة لبنان أم لإغراقه أكثر؟.

لا شكّ أنّ لبنان الذي يتخبّط بمشاكل إنعدام التوازن وغياب الإستقرار والتوتّر الدائم، أقلّه منذ العام 2005 حتى تاريخه، عاد ليكون محطّ إهتمام أجنبي، لكن وفق مشاريع وغايات دَوليّة مُتباينة، وحتى وفق مصالح مُتضاربة في بعض الأحيان. بالنسبة إلى التدخّلات العربيّة المَعهودة فهي إنخفضت إلى أدنى مُستوى في المرحلة الأخيرة، بسبب إهتمام مصر بمشاكلها وبأزمتها مع ​إثيوبيا​، وبفعل غرق ​ليبيا​ بإنقساماتها وحروبها، وبسبب تقديم الدول الخليجيّة مشاكلها الإقليميّة الأشدّ خُطورة، من ​اليمن​ إلى ​إيران​، على الملفّ اللبناني، وكذلك بسبب مآخذ هذه الدول على أسلوب التعاطي اللبناني مع ملف "​حزب الله​"، إن من قبل ​القيادة​ الرسميّة في لبنان، أو حتى من قبل حُلفاء هذه الدُول أيضًا. حتى أنّ التدخّل السُوري الدائم بلبنان، إنحسر بشكل كبير، بسبب غرق ​سوريا​ في مُستنقع الحرب الأهليّة المليئة بالتدخّلات الأجنبيّة، وبفعل إستحواذ "حزب الله"–مَدعومًا بشكل كبير من إيران، على الكلمة الفصل في ملفّات لبنانيّة عدّة كان النظام السُوري يتدخّل فيها في السابق.

وفي ظلّ إنحسار التدخلات العربيّة–الخليجيّة التقليديّة، حاولت بعض الدول الغربيّة الفاعلة، سدّ هذه الثغرة، فدخلت ​فرنسا​ التي تُمثّل القارة الأوروبيّة ككل، على الخط اللبناني بقُوّة، وعبر مُتابعة شخصيّة ولصيقة من جانب الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​. كما عادت ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة إلى رفع مستوى تدخّلها في الملفّ اللبناني، مُرسلة المبعوث تلو الآخر إلى ​بيروت​، وشاهرة سيف العُقوبات على المسؤولين اللبنانيّين. وقد تضاربت الآراء بشأن أهداف التدخل الفرنسي–الأميركي المُتزامن، وجرى الترويج لنظريّتين بشكل خاص:

النظريّة الأولى تتحدّث عن تكامل بين الدَورين الفرنسي والأميركي في لبنان، حيث تقوم ​باريس​ بلعب دور المُصلح والوسيط، واعدة بتقديم القُروض الماليّة وبفتح باب مُساعدات المُجتمع الدَولي للبنان، في حال تنفيذ الإصلاحات التي طالبت بها، بينما تقوم ​واشنطن​ برفع مُستوى ضغطها على بعض الأفرقاء اللبنانيّين ومُستوى تهديداتها بحقّ بعض الأفرقاء الآخرين، بهدف حثهم على تذليل العقبات. ويعتبر أصحاب هذه النظريّة أنّ توقيت العُقوبات الأميركيّة ​الجديدة​ في خضّم مُحادثات التشكيل الحكومي ليست صدفة، بل يدخل في صلب التدخّل الدَولي في عمليّة تأليف الحُكومة الجديدة، من دون إغفال الهدف المُشترك لكل من باريس وواشنطن والمُتمثّل بالحفاظ على الإستقرار الأمني في لبنان، لمنع تفجّر الوضع عسكريًّا في ​الجنوب​، وللحؤول دون تدفّق المُهاجرين إلى ​أوروبا​، وكذلك بغية تحضير الأرضيّة المُناسبة لتمرير المشاريع الدَوليّة الكُبرى للمنطقة. كما تُوجد أيضًا أهداف إقتصاديّة لكل من فرنسا و​أميركا​، عبر شركات تدور في فلكهما يُنتظر أن يكون لها أدوار في المُستقبل، لجهةبناء بعض المرافق اللبنانيّة وإستخراج ​النفط والغاز​، إلخ.

النظريّة الثانية تتحدّث عن تضارب في الرؤى بين فرنسا والولايات المُتحدة الأميركيّة، بالنسبة إلى مُجمل ملفّات ​الشرق الأوسط​، ومنها الملفّ اللبناني. وفي هذا السياق، تلعب فرنسا مثلاً دور الوسيط بين ​الإتحاد الأوروبي​ و​العالم​ الغربي من جهة وإيران من جهة ثانية، وهي تُحاول قدر المُستطاع تعويم الإتفاقات السابقة مع ​طهران​، بينما تقود الولايات المُتحدة الأميركيّة حملات عزل إيران وإضعافها وتأليب العالمين العربي والغربي ضُدّها، إضافة إلى حملات إخراجها من سوريا، وتقليم أجنحتها وأجنحة التنظيمات المُموّلة منها في المنطقة. وفي الملفّ اللبناني، تُركّز باريس على ضرورة إنقاذ لبنان من حال الإنهيار الكامل، وتضغط بكامل قواها لتشكيل حُكومة جديدة تُطلق ورشة الإصلاحات، بالتزامن مع إغفالها كلّ المواضيع الخلافيّة اللبنانيّة، على غرار سلاح "حزب الله" ودوره في المنطقة، وترسيم الحُدود البريّة والبحريّة في الجنوب، وغيرها، وذلك تجنّبًا لفشل مهمّتها.أمّا واشنطن فتركيزها هو على تضييق الخناق على "حزب الله"، عبر إضعاف نُفوذه في ​السلطة​ السياسيّة، وعبر خنقه إقتصاديًا ومُحاصرته ماليًا، وكذلك عبر تقييد حركته الأمنيّة جنوبًا وسحب ذرائع الإشتباك على الحُدود منه.

في كل الأحوال، إنّ لبنان يعيش اليوم مرحلة دقيقة ومصيريّة في تاريخه، حيث أنّه أمام فرصة نادرة لتجنّب الإنهيار الكامل، بمُساعدة دَوليّة واضحة، لكنّ هذه المُساعدة مَشروطة بمطالب إصلاحيّة تصطدم بمصالح قوى داخليّة فاسدة، وهي مُغلّفة أيضًا بمطالب سياسيّة تصطدم بمصالح قوى مُنخرطة في محاور صراع على مُستوى الشرق الأوسط ككل. وبالتالي، قد يكون مصير هذه الفرصة السُقوط، ليدخل لبنان عندها في المجهول، ما لم يبتدع المسؤولون لدينا أسلوبًا مُبتكرًا لتدوير الزوايا، بحيث نستفيد من الفرصة الدَوليّة السانحة، لكن من دون الدُخول في صراعات لبنانيّة داخليّة جديدة، نحن في غنى تام عنها!.