يُمكن وضع كل الكلام السياسي بشأن تأليف الحكومة ال​لبنان​ية في خانة التوقعات. لكن يُمكن ايضاً وضعها في إطار الضغوط التي تجري لتخفيض منسوب الشروط السياسية التي إعتادت القوى على إنتهاجها في بلد طوائفي. عندما جرى إعتماد إسم السفير اللبناني في ألمانيا ​مصطفى أديب​ كرئيس لتأليف الحكومة، سبقته ميّزاته الوطنية وقدراته الدبلوماسية إلى البلد. وعندما سمّاه نادي رؤساء الحكومات السابقين بعد اتفاق ركني النادي سعد الحريري و​نجيب ميقاتي​، وظهر أن أديب يحظى بغطاء فرنسي ومباركة أميركية، إندفعت الكتل النيابية لتسميته. لكن رئيس الحكومة المكلّف لم يبادل تلك القوى اندفاعتها. هو أجرى لقاءات بروتوكولية عادية، في اجتماعات الإستشارات التي جرت في مقر الرئاسة الثانية في ​عين التينة​، ثم قام بخطوات يتيمة بشأن إستمزاج رأي القوى السياسية، قبل ان تسود معلومات غير مؤكدة، أو هي شائعات عن أن الفرنسيين هم يديرون لعبة التأليف، و أن الحريري وميقاتي هما يوجّهان أديب. علما ان ميقاتي هو خارج لبنان، ويبدي امام من يتصل به مستطلعاً عدم علمه بما يدور في كواليس التأليف.

بجميع الاحوال، وبينما تسرّبت أنباء عن نية رئيس الحكومة المكلّف تقديم صيغة حكومية مكوّنة من ١٤ وزيراً الى رئيس الجمهورية، من دون رأي ولا تدخل ولا مراعاة القوى السياسية، كانت هذه القوى تلتزم الصمت، وتعوّل على رفض رئيس الجمهورية لطرح أديب. كان جرى تسريب أجواء عن وضع رئيس الحكومة المكلّف ورقتين في جيبه: واحدة للتشكيلة، وثانية للإستقالة في حال رفض رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ الورقة الأولى. ثم عاد المسرّبون وعمموا أجواء عن عدم نية أديب الاستقالة بل الإعتكاف.

في الحالتين، واذا صحّ السيناريو بشأن خطوة أديب فإنه يكون قد رمى كرة المسؤولية في ملعب غيره. هنا يحاكي أديب الفرنسيين بأنه التزم وترجم ما ارداه الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​. وربما يكون يمارس ضغوطاً على القوى السياسية، في ظل تهديد غربي بالعقوبات التي كانت مقدمتها بحق الوزيرين السابقين النائب ​علي حسن خليل​ و​يوسف فنيانوس​.

تنقسم الضغوطات عملياً نحو جهتين: الثنائي حركة "أمل" و"​حزب الله​"، والتيار "الوطني الحر". واذا كان الثنائي رفع من سقف مواقفه الضمنية بعد صدور العقوبات المذكورة، فإن ما يسرّب عن "الوطني الحر" أن رئيسه النائب ​جبران باسيل​ سيرمي الكرة ايضاً في ملعب غيره، من خلال القول: لا نريد المشاركة في الحكومة وسنعطيها الثقة. واذا تزامن هذا الموقف المتوقّع غدا الأحد، مع قبول رئيس الجمهورية ورقة أديب الحكومية، يكون العهد الرئاسي قد رمى الكرة في ملعب ​مجلس النواب​.

يمكن قراءة ابعاد تلك الخطوات بأنها ترمي بحسب مطّلعين الى حشر ​الثنائي الشيعي​، والإيحاء بأنه يعطّل مسار الحكومة وما يترتب على ذلك من خطوات مالية واقتصادية. فإذا صحّت هذه الفرضية، فما هو الموقف الفرنسي؟.

أظهرت خطوات ماكرون في لبنان بأنها كانت واقعية، من خلال تواصله مع "حزب الله" ورفض بحث ملفات استراتيجية متعبة حالياً. لم تأت خطوات الرئيس الفرنسي عن عبث، بل هو اتى الى لبنان لمنع انزلاق البلد الى مرحلة الفوضى. ​باريس​ تعرف أن ضرب الإستقرار اللبناني لا يخدم مشروعها الذي يقضي بمنع تمدّد الأتراك الى لبنان. من هنا لا يمكن للفرنسيين أن يشجعوا أديب على سلوك خطوات حكومية تؤدي الى فوضى لبنانية.

لماذا توقّع الفوضى حينها؟.

هي ليست معلومات، ولا أحد تحدث او ألمح لذلك، بل هو مجرد تحليل في بلد طائفي. لو كان نظام ​الدولة​ مدنياً لا يخضع لحسابات الطوائف ولا للمقاييس السياسية الدقيقة، كانت ليأتي طرح أديب وطنياً مطلوباً، لكن البلد محكوم بلعبة توازنات دقيقة جدا، فإذا اختلّت قواعد اللعبة، إهتز لبنان الى حد السقوط. قد يكون مطلب السقوط هو الطريق نحو نظام جديد يدفن الطائفية السياسية ويمضي نحو المدنية المطلوبة، لكن الطريق الشائك الآن، لا يسمح بسقوط حالي لا ترغب به العواصم المؤثرة في الساحة اللبنانية.

من هنا لا يمكن وضع التسريبات بشأن التأليف الحكومي الا في إطار الضغوط. وبحسب الأجواء، لا تراجع عند الثنائي الشيعي بشأن مقاربة ملف التأليف، ولا بخصوص حقيبة المالية تحت أي شرط. لا بل ان المؤشرات رُصدت عن زيادة في التصلّب بعد صدور العقوبات بحق خليل وفنيانوس.

لذا، ما هي الخطوات المقبلة؟.

المعلومات تتحدث عن جمود سلبي في ملف التأليف: غابت الإتصالات واللقاءات. وأرجأ أديب حراكه كي لا يُقال إنه يتماهى مع العقوبات التي صدرت في واشنطن. الى متى؟ ماذا بعد؟ لا أجوبة، سوى الا ولادة لحكومة طبيعية بوجود اعتراض مكون طائفي واحد بكامله. انه بلد التوازنات الطائفية الدقيقة التي تحتاج الى مقاربات جوهرية مفقودة حتى الساعة، وإلا تكون كما يقول أحد المراقبين: زحطة حكومية ناقصة.