"كرمى لعيون" لرئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​، خاض رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ "معارك سياسيّة" بالجملة على مدى الأشهر الماضية، أطلق معها مقولاتٍ باتت أشهر من النار على العلم، على غرار استعداده لتقديم "لبن العصفور" للحريري، أو تعهّده بالوقوف إلى جانبه "ظالماً أو مظلوماً".

آخر "المآثر" التي قدّمها بري للحريري، كما يقول مناصروه، كانت "التضحية" برأس حكومة حسّان دياب، التي كان "الشيخ سعد" يشكو من ممارساتها، بعدما تحوّل رئيس البرلمان من "عرّابٍ" للحكومة إلى "خصمٍ شخصيّ" لرئيسها، وواضعٍ للعصيّ في دواليب حكومته، نيابةً عن قوى المعارضة مجتمعةً.

كلّ ذلك في كفّة، وما تسرّب عن الاجتماع الذي عُقِد في عطلة نهاية الأسبوع بين بري والحريري في كفّةٍ أخرى، بعدما تبيّن أنّه انتهى إلى "افتراقٍ" بين الرجليْن على خلفيّة "عقدة" حقيبة ​المال​، ما دفع بري إلى إصدار بيانٍ من "عنديّاته"، كما قال، رافعاً فيه السقف إلى الحدّ الأقصى، ومُعلِناً "عدم رغبته" بالمشاركة في ​الحكومة​.

"امتعاض" وأكثر...

لا يبدو الحديث عن "امتعاض" بري من الحريري مجرّد تكهّنات لبعض المراقبين أو المحلّلين، بعدما تظهّر بوضوح في أعقاب اللقاء الذي جمعهما خلال عطلة نهاية الأسبوع، والذي لم يُفرِز أيّ نتيجة إيجابية، بدليل اضطرار الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ لأخذ زمام المبادرة شخصياً والاتصال برئيس المجلس، من دون أن ينجح في ​تحقيق​ "خرق" يُبنى عليه.

ولعلّ بري كان أكثر من واضح في البيان الذي أصدره، حين نفى وجود أيّ خلاف مع الفرنسيّين، حاصراً "المشكلة" في الداخل ومن الداخل، كما قال، في غمزٍ صريحٍ من قناة الحريري شخصياً، ومن خلفه من كانوا يديرون "التفاوض" حول التشكيلة الحكوميّة وراء الكواليس، رغم نفي رئيس الحكومة السابق مراراً وتكراراً أيّ دورٍ له على هذا الصعيد.

وإذا كانت "عقدة" حقيبة المال التي سيطرت على المشهد السياسي في الأيام القليلة الماضية، شكّلت عنوان "الخلاف"، وربما "الافتراق" بين الرجليْن، فإنّ "امتعاض" بري يعود بالدرجة الأولى إلى عدم "تضامن" الحريري معه، ولو من الناحية الميثاقيّة، بعكس ما كان يفعله هو في كلّ الاستحقاقات، وآخرها ملف ​تأليف الحكومة​، حينما أصرّ بري على الحريري كمرشّحٍ وحيدٍ له، أو من يسمّيه، وهو ما حصل في نهاية المطاف.

ومع أنّ البعض يشدّد على أنّ "المداورة" التي تشمل المالية، هي من "شروط" المبادرة الفرنسية التي قد يطيح المسّ بها بالمبادرة ككلّ، وأنّ الحريري تحرّك من تلقاء ذاته في محاولةٍ لإقناع برّي بذلك، فإنّ المقرّبين من الأخير يصرّون على أنّ القصّة أبعد من ذلك، وعلى أنّ الحريري هو الذي "يشكّل" الحكومة عملياً، بالتكافل والتضامن مع رؤساء الحكومات السابقين، في محاولةٍ لفرض "أمر واقع" على الآخرين، بعنوان "الفرصة الأخيرة".

معركة "خاطئة"؟!

لا يتردّد المقرّبون من رئيس المجلس والمحسوبون عليه في "لوْم" الحريري على موقفه، بل الحديث عن "مجازفةٍ" يخاطر بالإقدام عليها، عبر "توتير" الجبهة السنّية-الشيعية، بعدما أثبت في مناسباتٍ عديدة، أنّه قادرٌ على "تحصين" هذه الجبهة، وهو ما نجح في تأمينه إلى حدّ بعيد مثلاً، في أعقاب صدور الحكم في جريمة اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، ما حال دون "​انفجار​" أيّ تداعيات على الأرض.

هنا، تتفاوت وجهات النظر، إذ يعتبر المقرّبون من الحريري أنّ تصوير الأمر بهذا الشكل هو "تضخيمٌ" للموضوع، وأنّ كلّ ما حاول رئيس تيار "المستقبل" فعله، من دون أن يكون "وسيطاً رسمياً"، هو إقناع رئيس المجلس، من بوابة "الصداقة"، بوجوب أن تشمل "المداورة" حقيبة المال، ليس فقط لكون ذلك من الشروط الفرنسيّة، ولكن قبل ذلك لأنّ العديد من الأوساط السياسية كانت واضحة في أن عدم سريان المداورة على حقيبةٍ واحدةٍ سيؤدي إلى "الإطاحة" بها.

وإذا كانت المصادر تلمّح في هذا السياق إلى ما تسرّب عن نيّة "الوطني الحر" التمسّك بحقيبة ​الطاقة​، في حال بقيت "المال" في يد "​الثنائي الشيعي​"، وهو ما اعتُبِر من "المحظورات" بالنسبة إلى الفرنسيّين وفريق التأليف على حدّ سواء، فإنّ هناك من رفض أيضاً فكرة تكريس "عرف" ربط حقيبة "المال" بالشيعة، كما يسعى بري و"​حزب الله​"، باعتبار أنّ تجربة ما بعد ​الطائف​ "تدحض" هذا المنحى، وقد ذهبت الحقيبة إلى وزراء متنوّعي الانتماءات الطائفية، حتى في حكومات لم يكن رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري يرأسها.

لكنّ بري يرفض مثل هذه "المقاربة" بالمُطلَق، وهو يعتبرها "معركة خاطئة" من حيث المضمون، ولكن أيضاً من حيث الشكل والتوقيت، خصوصاً أنّ "الليونة" التي كان يمكن أن تحصل على هذا الخط، لم تعد واردة بعد ​العقوبات الأميركية​ الأخيرة، والتي شملت المعاون السياسيّ لبري وزير المال السابق ​علي حسن خليل​، أو من يوصَف بـ"يده اليُمنى"، ما تطلّب منه التمسّك بالحقيبة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، من بوابة "الردّ" على العقوبات بالحدّ الأدنى. ويضيف بري إلى ذلك مبدأ "الميثاقية" التي يؤمّنها توقيع وزير المال، إلى جانب رئيسي ​الجمهورية​ والحكومة، علماً أنّ عدم ورود ذلك في "نصّ صريح" ليس "تهمةً" برأيه، خصوصاً أنّ كلّ "الأعراف الطائفية" التي تتحكّم بالمشهد السياسي منذ الطائف، غير واردة في نصّ الاتفاق صراحةً.

مثيرٌ للدهشة...

قد تكون "عقدة" المال من "العُقَد الثابتة" في المشهد الحكوميّ، بحيث يتكرّر الحديث مع كلّ مفاوضات حكوميّة، لكنّها تتّخذ اليوم أهمية مُضاعَفة، في ضوء العقوبات الأميركية، والتي سعت إلى الإيحاء بدور "سياسيّ" لوزير المال، خدمةً لـ"حزب الله".

لكن، أبعد من "العقدة" وخلفيّاتها ومآلاتها، تبقى تداعيات "المشكل المستجدّ" على خطّ العلاقة بين بري والحريري في بؤرة الاهتمام، في ضوء "قناعة" المحسوبين على "الأستاذ" أنّ الحريري هو من "يفرض" شروط التأليف، رغم نكران المقرّبين من "الشيخ" أيّ دورٍ له.

يقول بري إنّه لطالما "راهن" على الحريري، وقدّم له الكثير، ما أغاظ عدداً من "حلفائه" في أكثر من محطّة ومناسبة، وهو كان ينتظر أن يبادله "الشيخ سعد" بعضاً من هذا "الجميل" بموقفٍ "تضامنيّ" بالحدّ الأدنى، بدل أن يكون في صدارة "المتصدّين" له.

صحيحٌ أنّ كثيرين يعتقدون أنّ العلاقة بين الرجليْن لن تتأثّر كثيراً، وأنّ "التركيبة" ستفرض "التقاءهما" من جديد عاجلاً أم آجلاً، لكنّ الأكيد أنّ استمرار الحديث بمثل هذا "المشكل" في عزّ انفتاح جميع الأفرقاء، بمن فيهم بري والحريري، على ​الدولة​ "المدنيّة"، لأمرٌ مثيرٌ للدهشة، وما هو أبعد منها...