منذ بداية المسار الفرنسي على الساحة ال​لبنان​ية، على خلفية الإنفجار الذي حصل في مرفأ ​بيروت​ في الرابع من آب الماضي، طرحت الكثير من علامات الإستفهام حول الموقف الأميركي منه، لا سيما أن ​الولايات المتحدة​ هي التي كانت تقود المسار الذي يقوم على ممارسة الضغوط إلى الحد الأقصى، بالتعاون مع بعض الجهات العربية الفاعلة.

أساس المسار الفرنسي، الذي توج لاحقاً بالمبادرة التي تقوم على تسمية رئيس ​الحكومة​ المكلف ​مصطفى أديب​، بالتوافق بين "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" و"​التيار الوطني الحر​" وتيار "المستقبل"، هو منع وصول لبنان إلى مرحلة الإنهيار الشامل، الذي يؤدي إلى الفوضى الكاملة، الأمر الذي تفاعلت معه ​واشنطن​ نظراً إلى قناعة بعض الأوساط الأميركية بأن ذلك سيقود إلى سيطرة "حزب الله" على البلاد، أو على الأقل سيكون هو المستفيد الأول منه.

على الرغم من ذلك، لم تعمد الولايات المتحدة إلى تقديم التسهيلات لجهود ​باريس​، التي تنطلق من مصالح فرنسية خاصة تتعلق بالواقع في ​البحر المتوسط​ و​الشرق الأوسط​، بل على العكس سارعت إلى فرض المزيد من العقوبات على شخصيات لبنانية من قوى حليفة لـ"حزب الله"، كالوزيرين السابقين ​علي حسن خليل​ و​يوسف فنيانوس​، بالتزامن مع الطلب من بعض حلفائها المحليين تشديد مواقفهم من المباردة الفرنسية.

من الناحية العملية، تشير مصادر سياسية متابعة، عبر "النشرة"، إلى أن تطورات الاسبوع المنصرم كان من الممكن أن تؤدي إلى إجهاض المبادرة الفرنسية، نتيجة الخلاف حول "حق" ​الطائفة الشيعية​ بالحصول على حقيبة المالية، إلا أن باريس عمدت، في اللحظات الأخيرة، إلى تمديد مهلة الخمسة عشر يوماً التي كان الرئيس ​إيمانويل ماكرون​ قد حددها ل​تشكيل الحكومة​، نظراً إلى أنّ خيار فشل المبادرة غير وارد، بعد أن وضع كل رصيده السياسي فيها.

وفي حين تلفت هذه المصادر إلى أن الجانب الفرنسي لا يزال يضع كل ثقله لإنجاح هذه المبادرة، بعد أن عمد إلى تشكيل فريق أمني دبلوماسي لمتابعة الملف اللبناني على مدار ​الساعة​، ترى أن الموقف الأميركي من الأحداث المحلية لا يزال هو نفسه ذلك الذي كان قائماً منذ ما قبل إنفجار ​المرفأ​، وهو في هذا المجال يتماهى مع موقف الجهات العربية المعنية بالساحة اللبنانية، خصوصاً ​المملكة العربية السعودية​، بالرغم من تأكيدها أن الموقف في الولايات المتحدة غير موحد على هذا التوجه.

في هذا السياق، توضح المصادر نفسها أن الجانب الذي يمثله ​وزير الخارجية​ ​مايك بومبيو​ في ​الإدارة الأميركية​ عبر عن موقفه من المبادرة الفرنسية من خلال المقال الذي كتبه في صحيفة "لوفيغارو"، الذي أعرب فيه عن أسفه لأن "​فرنسا​ ترفض تصنيف حزب الله كله كمنظمة إرهابية، كما فعلت دول أوروبية أخرى، وقيّدت تقدم ​الاتحاد الأوروبي​ في نفس الإجراء"، لافتاً إلى أن الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، يعتبر أن "الضغط الأقصى فقط على النظام ال​إيران​ي، وليس التهدئة، هو الذي يمكن أن يؤدي إلى التغييرات في السلوك التي نسعى إليها جميعاً".

ما تقدم، يعيد إلى الأذهان ما حصل قبل أسابيع قليلة في ​مجلس الأمن الدولي​، عندما رفضت فرنسا و​بريطانيا​ و​ألمانيا​ دعم قرار أميركي بتمديد حظر الأسلحة الأممي على إيران، الذي ينتهي في شهر تشرين الأول المقبل، الأمر الذي تعتبر واشنطن أن باريس تقف خلفه بشكل أساسي، بسبب المصالح التي لديها مع ​طهران​.

بالعودة إلى الساحة اللبنانيّة، فرنسا هي ​الدولة​ الوحيدة من الثلاثي الأوروبي المذكور في الأعلى التي ترفض تصنيف "حزب الله" منظمة إرهابية، وتصر على الفصل بين ​الجناح​ين العسكري والسياسي، بالرغم من أن الحزب نفسه يرفض هذا الفصل. وخلال زيارته الثانية إلى بيروت، أصر ماكرون على رفض فتح الملفات التي تغضب "حزب الله"، معتبراً أن الأولوية اليوم هي لوقف الإنهيار في البلاد، بعد أن كان أبرز المسؤولين الغربيين الذين يجتمعون مع قيادي من الحزب هو رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب ​محمد رعد​.

في مقاله في "الفيغارو"، انتقد بومبيو حفاظ باريس على "الوهم" القائل بوجود جناح سياسي لـ"حزب الله"، في مؤشر إلى رغبة واشنطن في دفع فرنسا إلى تصنيف الحزب بكامله منظمة إرهابية، وبالتالي دفعها إلى خروج من إطار المبادرة التي تقوم بها على الساحة اللبنانية، لأنها عندما تقدم على هذه الخطوة ستخسر دور الوسيط بين القوى المحلية الذي تسعى إلى تعزيزه بكل قوة، الأمر الذي ترى المصادر السياسية المتابعة أنه يؤكد على عدم رؤية الولايات المتحدة أي فائدة من المبادرة الفرنسية على المدى المتوسط أو الطويل، لكنها قررت منح الفرصة كي لا تغضب باريس أو تعزز الخلافات معها.

بالنسبة إلى هذه المصادر، هناك نقطة جوهرية ينبغي التوقف عندها تكمن بموعد الإنتخابات الأميركية المقررة في شهر تشرين الثاني المقبل، حيث تشير إلى أن ماكرون نفسه ينتظر الإنتهاء من هذا الإستحقاق لمعرفة المدى الذي من الممكن أن يذهب إليه في مبادرته، نظراً إلى أن فوز ترامب بولاية جديدة قد يعيد خلط الأوراق على هذا الصعيد، لأنه على الأرجح سيعزز موقف الجناح الذي يمثله بومبيو في الإدارة الأميركية، الذي يتبنى خيار الضغط الأقصى.

في المحصّلة، رسالة بومبيو، التي إختار بعناية أن يرسلها عبر صحيفة فرنسية، واضحة لا لبس فيها: واشنطن ترفض ​سياسة​ باريس تجاه طهران، الأمر الذي يشمل نظرتها إلى "حزب الله"، وبالتالي هي تعتبر أن المبادرة التي تقودها لا قيمة لها، طالما أنها لا تحقق أهدافها في لبنان، وتراهن على إفشالها كمقدمة لتحميل الحزب المسؤولية أولاً، ودفع فرنسا إلى تبديل وجهة نظرها منه ثانياً، بالتزامن مع السعي إلى تغيير وجهة نظرها في التعاطي مع الملف الإيراني بشكل كامل.