إن مرّ شريط التاريخ بسرعة أمامنا يمكننا الجزم بوضوح أن ​الحياة​ العامة في ​لبنان​ هي في طور البحث الدائم عن زعماء جدد كل عقدين ونيّف من الزمن تقريبًا. هذا البحث يتجدّد كلمّا سقطت صفات الزعامة عن أحدهم في ​السياسة​ والإجتماع، أو في حال ألزم العمر الزعيم على التقاعد والتنحّي جانبًا. الإشكاليّة تبدو هنا جليّة، لماذا يبحث الناس عن الزعماء؟ ما هي الحاجة إليهم؟ نقاش معمّق لا بدّ للإجابة عليه بوضوح الغوص في سيكولوجيا الجماعات وماهية تفكيرهم ووعيهم وأسلوب عيشهم. قد يعتبر البعض أنّ الولاء للزعيم هو وصمة سلبيّة تلحق بصاحبها، فيما قد يصف آخرون من لا ينتمي لجماعة سياسية ما بالمغرّد خارج السرب. هل يجوز أن يكونا كلاهما على حق؟.

أرسطو ومن قبله أفلاطون كانا قد أكّدا على حاجة ​الإنسان​ الى التجمّع والانخراط في الجماعة، حيث اعتبر الأوّل أن في ​الانسان​ نزعة حيوانية غريزية تدفعه باستمرار الى الإنضمام للجماعة، باعتباره حيوانًا اجتماعيًا لا يستطيع أن يكسب حياته أو يحمي نفسه من الأخطاء بمفرده. لذا فإن الضرورة الامنية والمعيشية أجبرته على الانضمام إلى حياة الجماعة .

أما في الدراسات المعاصرة فقد تحوّل هذا الميل النظري الى غريزة للتجمّع تعبّر عن نفسها بالبحث الدائم الواعي واللاواعي عن الجماعة .

وللجماعة حاجة حتميّة لقائد او زعيم منعاً للفوضى ووجود العدوانيّة ولضمان وجود روح التفاهم والتعاون بين اعضائها. ف​القيادة​ تعرف بأنّها عبارة عن توجيه وضبط واثارة سلوك واتجاهات الاخرين. فالقائد او الزعيم يلعب دوراً هاماً في تحديد اهداف الجماعة، وفي وضع قيمتها ومعاييرها وأنظمتها وثقافتها واستراتيجيتها.

لذلك لا تكون الزعامة مجرد مركز لممارسة ​السلطة​، بل هي مؤسسة ذات وظائف في الادارة والتنفيذ والتخطيط، كإبداء الرأي والاستشارة وتمثيل الجماعة لدى الغير، وضبط العلاقات بين الاعضاء، من خلال تحديد الحقّ والثواب والعقاب والفصل في النزاعات، فالزعيم هو رمز الجماعة والمسؤول عنها والناطق باسمها، لذا فان وجوده يعتبر مسألة جوهرية يتوقف عليها وجود الجماعة واستقرارها واستمرارها في الوجود.

أما في عصرنا الحالي، فالزعامة عادة ما تولد نتيجة ميول وانتماء ديني او منصبي، أو ميول وانتماء عقائدي، وبالنسبة لسمات الشخصيّة فعادة ما يكون صاحب قدرات ومواهب بارزة، وعادة ما يتفرّد بصفات عقليّة واجتماعيّة ونفسيّة خاصة، كما يكون الزعيم أكثر ثقة بنفسه ومبادرًا وطموحاً، وأكثر ميلاً للسيطرة وأكثر قدرة على التكيّف من باقي أفراد الجماعة، بالاضافة الى قدرته العالية في الخطابة واقناع الافراد ومعرفة نفسيات الاتباع والخصوم وتنبؤ المشكلة قبل حدوثها واتخاذ القرارات واصدار الاوامر .

وعليه، يأتي الولاء من الأفراد والجماعات للزعامات في لبنان بناءً على شعور بالقلق والخوف وعدم الإطمئنان لناحية ضمان الوجود والإستقرار، فيكون الزعيم المناطقي أو الوطني هو الضامن لحياة الجماعات في مناطقهم وضمن بيئاتهم. لا يولد الولاء للزعيم في وجدان الفرد فجأةً، وإنّما هي حالة انتماء تراكميّة غريزيّة، بالإضافة إلى كونها تُكتسب من التنشئة المنزليّة و​البيئة​ الإجتماعيّة الأوسع، فهو من طفولته يلمس التبعيّة المطلقة من أهله لزعيمهم فيكتسب حبّه وتقديره واعتباره مختلفًا عن الجميع بشكل طبيعي ودون تفكير.

هذا، ومن الممكن أن تساهم هذه العوامل في تشكيل حالة ولاء أعمى لدى الفرد تجاه زعيمه، معزّزةً بأساليب إثارة العصبيّة الدينيّة أو العقائديّة أو النفعيّة من خلال تمسّك الفرد بمن يُشبع له حاجاته.

وفي ​حالات​ الولاء الأعمى يفقد الفرد هويّته الشخصية ويذوب في الجماعة ومصالحها وأهدافها، فيفقد في بعض الأحيان إضافةً لهويته الشخصية، هويّته الوطنية، نتيجة فقدان لعقلنة مقاربة السلوكيات والمتغيّرات.

هنا يأتي دور ​الدولة​، لإتباع سياسات تربوية تنشئية تعالج سيكولوجيا ​الأطفال​ في ​المدارس​ لمحاولة معالجة الخلل في التربية المنزلية والتأثيرات الإجتماعية، وبذلك تتعزز روح الإنتماء الوطني ويُضحي الفرد بعد سنوات قادرًا على مقاربة الأحداث بعقلانيّة بعيدًا عن تغليب مصالح الجماعات على حساب المصلحة العامة.

في المحصّلة، نرى بأنّ الولاء للزعيم ليس بوصمة سلبيّة على صاحبه إن ترافق مع عقلنةٍ تقيّم كل سلوك بسلوكه وتنقد الأخطاء، فالعمل على تنشئة جيل ينتمي سياسيًا دون ولاءات عمياء يرفع من إمكانيّة التغيير الفعلي متى كان الوطن بحاجةٍ لذلك.

​​