في الأشهر القليلة الماضية، ضجّ ​لبنان​ بفضيحتين من العيار الثقيل، الأولى تمثّلت بالكشف عن كميّات ضخمة من الفيول المَغشوش، والثانية تمثّلت بضبط عشرات الأطنان من الدجاج الفاسد. وفي الملفّين جاءت نتيجة التحقيقات مُخيّبة للآمال، حيث بقي العديد من المُتهمين خارج المُساءلة، بسبب حمايات سياسيّة وتدخّلات مُختلفة-كما قيل وتردّد! وللأسباب عينها، تمّ أخيرًا الإفراج بكفالات زهيدة عَمَّن جرى التحقيق معه وتوقيفه لبعض الوقت! فهل تحقيقات إنفجار أو مجزرة المرفأ في الرابع من آب، ستكون مُشابهة لما إنتهت إليه تحقيقات الملفّين المَذكورين أعلاه؟.

عندما حدّد رئيس الحكومة المُستقيل حسّان أديب مُهلة الخمسة أيّام لكشف ما حدث في ​مرفأ بيروت​ في الرابع من آب، ظنّ اللبنانيّون أنّ شيئًا ما قد يتغيّر عمّا إعتادوا عليه طوال حياتهم بالنسبة إلى أغلبيّة الجرائم والكوارث والفضائح، لكنّ المُهلة مرّت، وإستقالت الحكومة، ومضى شهر ونصف الشهر، من دون ظُهور أيّ نتيجة بعد، الأمر الذي دفع العشرات من أهالي ضحايا مجزرة المرفأ إلى التحرّك ميدانيًا يوم السبت الماضي، مُطالبين بالكشف عن نتائج التحقيقات، وبمُحاسبة المسؤولين عن الحادث، وذلك خلال وقفة إحتجاجيّة لهم أمام المرفأ. ورفض أهالي الضحايا تسييس القضيّة أو إستثمار دماء الضحايا، واعدين بتحرّكات وبإحتجاجات تصاعديّة في حال بقاء التحقيقات على ما هي عليه.

تذكير أنّه في 13 آب الماضي، وافق ​مجلس القضاء الأعلى​، على تعيين قاضي التحقيق العسكري الأوّل بالإنابة، ​فادي صوان​، مُحقّقًا عدليًا في جريمة إنفجار المرفأ. ومنذ ذلك الحين، جرى التحقيق مع عشرات المسؤولين، والإدعاء على الكثيرين وتوقيف شخصيّات إداريّة وأمنيّة مُختلفة بمُذكّرات وجاهيّة، حيث بلغ عدد الموقوفين في القضيّة خمسة وعشرين موقوفًا. وهذا أمر جيّد، لكنّ عدم قيام المسؤولين عن التحقيق بإطلاع الرأي العام على نتائج التحقيقات، فتح الباب أمام تسرّب العديد من الأخبار المَغلوطة والمَعلومات غير الصحيحة والإشاعات المُفبركة. وزادت شكوك المُواطنين بسبب بروز إستثناءات في الجهات التي شملها التحقيق، وبسبب بروز تمايز في التعاطي مع بعض الموقوفين، مع إنتشار إشاعات بُوجود ضُغوط سياسيّة لإخراج بعض المَوقوفين. وتعزّزت أجواء البلبلة أكثر فأكثر مع إستمرار توقيف بعض الضُبّاط الصغار الذين ينتهي دورهم عند مَسألة تبليغ المسؤولين الأعلى رتبة منهم عمّا كان يُوجد في المرفأ، من دون أن يفهم الناس بعد أسباب إستمرار توقيف هؤلاء، ولا أسباب عدم توقيف الشخصيّات التي جرى تبليغها عن المخاطر في المرفأ ولم تُحرّك ساكنًا. وإنعكس سلبًا أيضًا التأخير في خُضوع بعض الوزراء والمسؤولين الكبار الحاليّين والسابقين للتحقيق، وخُضوع بعض هؤلاء لتحقيقات شكليّة، حيث زادت الخشية لدى الرأي العام من أن يتم تدفيع بعض المسؤولين الصغار المسؤولية، بالتزامن مع تبرئة المسؤولين الكبار، وذلك بغير وجه حقّ. وإكتملت أجواء البلبلة والضياع بعد إندلاع حريق العاشر من أيلول الحالي، حيث لم يقبض الكثيرون تبرير أخطاء عمليّات اللحام والصهر، وتبرير تخزين مواد قابلة للإشتعال مثل الزيوت والإطارات جنبًا إلى جنب، في تكرار لسيناريو مُماثل وقت وُقوع إنفجار الرابع من آب، عندما جرى الحديث عن عمليّات لحام وصهر من دون توفّر أدنى شُروط السلامة والأمان، وفي مُقدّمها تجهيزات الإطفاء وإخماد الحريق، وعن تخزين المُفرقعات ونيترات الأمونيوم جنبًا إلى جنب، الأمر الذي تسبّب بالكارثة! وبلغت الأقاويل حدّ نسج سيناريوهات لمؤامرات دَوليّة تقضي بضرب مرفأ بيروت، بالتزامن مع تعويم مرافئ أخرى في المنطقة، بعد تقدّم ملفّ تطبيع بعض الدُول العربيّة مع ​إسرائيل​.

في كلّ الأحوال، وبحسب آخر المعلومات غير الرسميّة عمّا توصّلت إليه التحقيقات، يُمكن عرض الخلاصات الأوّليّة التالية:

أوّلاً: لا عمليّة أمنيّة إسرائيلية مُعادية، ولم يتمّ ضرب المرفأ بأيّ صاروخ لا من البرّ ولا من البحر، إلخ.

ثانيًا: لا دليل على قيام أيّ جهة بعمليّة تخريبيّة داخل المرفأ، مثل وضع عُبوة ناسفة، ومثل إضرام الحريق عمدًا، إلخ.

ثالثًا: الإهمال المُتعدّد الجهات والمُتمادي لفترة طويلة هو السبب الرئيس لما حصل في المرفأ في الرابع من آب.

رابعًا: التحقيق يتطلّب المزيد من الوقت، لأنّه يطال عشرات المراسلات التي رُفعت إلى مسؤولين سياسيّين وأمنيّين وقضائيّين، وذلك على مدى ست سنوات ونصف السنة، حيث جرى تجزئة التحقيق إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة وُصول السفينة المُحمّلة بنيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت، ورسوّها فيه، ومرحلة حجزها فيه وُصولاً إلى غرقها، ومرحلة التعامل مع حمولتها التي جرى تفريغها في المرفأ.

في كلّ الأحوال، على المُحقّق العدلي القاضي، فادي صُوّان، والجهات المسؤولة عن التحقيق، إسقاط كل الأقاويل والإشاعات التي تتحدّث عن أنّ التحقيقات تسير بشكل بطيء، وعن التعرّض لضُغوط كبيرة، منها بخلفيّات سياسيّة، ومنها بخلفيّات طائفيّة ومذهبيّة. وهذا الأمر يتمّ من خلال إطلاع الرأي العام عبر مؤتمرات إعلاميّة دَوريّة، عن التقدّم المُحقّق في التحقيق، وفي التصدّي لكل الأخبار المَغلوطة، وكذلك في التصدّي لأي مُحاولة لحماية شخصيّة أمنيّة أو إداريّة هنا أو للفلفة تهمة هناك، من دون مزيد من التباطؤ. ويجب إعطاء الرأي العام إجابات شافية عن أسباب وُجود نيترات الأمونيوم في المرفأ بهذا الشكل العشوائي على مدى سنوات، وعن الجهات التي خزّنتها في الأساس، وعن تلك التي أهملتها طوال سنوات، إلخ.

وفي الخلاصة، الأكيد أنّ الرأي العام اللبناني الذي عانى الكثير من إنفجار المرفأ، والذي لا يزال يُعاني حتى اليوم، يُفضّل التنحّي عن التحقيق وإعلان العجز عن إدانة المسؤولين الحقيقيّين وعن مُحاكمتهم، لكنّه غير قادر على الإطلاق على تقبّل أيّ مُحاولات تسويف وللفلفة للقضيّة، وأي مُحاولات لإدانة مَظلومين ولتبرئة مُتورّطين!.