سريعاً تحول الصراع السياسي في ​لبنان​ إلى صراع طائفي فاقع، انطلاقاً من الخلاف القائم اليوم حول مطالبة ​الثنائي الشيعي​ بالحصول على حقيبة الماليّة في الحكومة العتيدة، على أساس العرف الذي يتحدّث عنه في ​إتفاق الطائف​، بينما لم توافق الطوائف الأخرى على التسليم بهذا العرف، بل على العكس من ذلك تنفي وجوده بشكل مطلق.

وبناء على ذلك، بدأت أصابع الاتهام من قبل قيادات في الطوائف الأخرى توجه إلى "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" بالإنقلاب على التوازنات في البلاد، والسعي إلى تكريس المثالثة في ​النظام اللبناني​ القائم على ​المناصفة​ بين المسلمين والمسيحيين، الأمر الذي يهدّد بوقوع صدام طائفي أو مذهبي قاتل في أيّ وقت، بعد أن ساهمت تلك التوازنات، طوال الفترة الماضية، في منع أيّ محاولات للإصلاح أو ​مكافحة الفساد​.

وسط هذه المعمعة، التي لا علاقة لها مباشرة أو غير مباشرة بهموم اللبنانيين اليومية، ظهرت الدعوات إلى الذهاب نحو الدولة المدنيّة، خصوصاً من جانب القيادات الشيعيّة التي إختارت هذا التوجه، للردّ على رفض تكريس ما تعتبره حقاً لها بالحصول على حقيبة الماليّة، وبالتالي تحوّلت هذه الدعوات أيضاً إلى طائفيّة أو مذهبيّة، الأمر الذي يقود بشكل مؤكّد إلى إجهاضها، نظراً إلى أنّها في الأساسي طُرحت من أجل المقايضة عليها.

في ظل هذا الواقع، الأمر الوحيد الواضح هو غياب المشروع الوطني في لبنان، الأمر الذي قد يمثل الأزمة الأساس التي تمرّ بها البلاد، حيث أنّه في مرحلة يتّفق الجميع على وصفها بالتأسيسيّة، بعد الإنهيار الذي حصل على المستوى المالي والإقتصادي والإنفجار الذي حصل في مرفأ بيروت، ليس هناك من مشروع وطني قادر على تقديم خطاب من الممكن أن ينقذ البلاد من تحارب الطوائف والمذاهب التي تتكرر كل 15 عاماً تقريباً.

وبالتالي، أيّ تسوية من الممكن أن تحصل، في الوقت الراهن، ستقوم على معادلة توازن القوى بين الطوائف والمذاهب، التي لن تسلم في أيّ يوم بالمعادلة التي تكرّسها أيّ تسوية مرحليّة، بل ستنتظر الفرصة المناسبة للإنقضاض عليها، تماماً كما هو النظام القبائلي، حيث تعمد أي قبيلة إلى الغزو عندما تشعر بأنّ لديها فائض قوة يفوق ما لديها من إمكانات، أو تذهب إلى مواجهة إستباقيّة عندما تشعر بأن هناك قبيلة أخرى تسعى إلى شنّ عدوان عليها.

في هذا الإطار، قد يكون من الضروري الإشارة إلى أنّ أياً من تلك التكتّلات الطائفيّة لم تعطل البلد يوماً لتكريس أيّ حق لجميع المواطنين، من ضمان الشيخوخة، على سبيل المثال، إلى حصول المودعين على ودائعهم في المصارف، بل على العكس من ذلك تقدم المبررات لفشلها في هذا المجال بالحديث عن غياب التوافق أو الإجماع، لكن عندما تكون المسألة متعلقة بزيادة حصّتها في النظام يصبح الحديث عن التوافق أو الإجماع من الماضي، فهنا تكون القوّة هي أساس تحصيل الحق.

في هذا المجال، قد يتحدّث البعض عن وجود قوى وطنيّة لا تقوم على أساس الإنتماء الطائفي في لبنان، لكن عملياً لا تملك تلك القوى المشروع القادر على تأمين أيّ إلتفاف شعبي حولها، بل على العكس من ذلك تغرق نفسها في قضايا كبرى هي موضع إنقسام بين الطوائف والمذاهب، في حين أن المطلوب هو مشروع وطني قادر على كسر الحلقة المفرغة القائمة.

في المحصّلة، الأزمة الوجوديّة الحقيقيّة في لبنان هي غياب المشروع الوطني، بينما المشاريع الطائفيّة والمذهبيّة ليست، في أفضل الأحوال، إلا أداة لإضاعة حقوق المواطنين، من الممكن أن تقود في أيّ لحظة إلى تحارب وطني، ومن غير الممكن أن تكون هي أساس أيّ إنقاذ بات اليوم أكثر من ضروري.