منتصف الاسبوع الماضي ساد اعتقاد على نطاق واسع انّ الحكومة باتت على قاب قوسين او ادنى من ​الولادة​.

هذا الاعتقاد لم يأتِ من فراغ، بل من التفهّم الذي ابداه الفرنسيون تجاه المطالب التي يتمسّك بها ​الثنائي الشيعي​ حيال حقيبة المال. وجاء هذا التفهم من خلال قناتين اساسيتين: الاولى عبر السفير الفرنسي في ​لبنان​، والكلام الذي ردّده امام ​عمار الموسوي​ في قصر الصنوبر في ​بيروت​. والثانية عبر رئيس جهاز المخابرات ​الخارجية الفرنسية​ برنار ايمييه، والذي تواصل مع مدير عام ​الامن العام​ ​اللواء عباس ابراهيم​.

بدا للجميع انّ المرحلة الاخيرة، والمتمثلة بإقناع رؤساء الحكومة السابقين، لن تشكّل عقبة فعلية خصوصاً انّ ​باريس​ قادرة على تليين المواقف.

لكن مرونة صباح الخميس تبدّلت بعد ساعات معدودة، حيث تمسّك الرئيس المكلّف ب​تشكيل الحكومة​، بالمداورة الشاملة من دون استثناءات، ما أعاد الوضع الى نقطة البداية. وتبع ذلك تأكيد رؤساء الحكومة السابقين «بالجملة والمفرّق» التمسّك النهائي بأن تشمل المداورة حقيبة المال وعدم تكريسها للطائفة الشيعية وفق معادلة التوقيع الثالث.

هذا الموقف وضعه البعض في خانة الاميركيين. صحيح انّ ​واشنطن​ تدعم المبادرة الفرنسية، لكنها ترفض الاستثناءات، وبالتالي، فهي لا ترحّب ابداً بتكريس قاعدة اعطاء ​وزارة المال​ لـ»حزب الله» باعتباره صاحب القرار داخل ​الطائفة الشيعية​ وفي ظلّ الرعاية الفرنسية.

اضف الى ذلك، انّ الاميركيين يضعون علامات استفهام حول وجود فجوات مالية داخل وزارة المال يريد الثنائي الشيعي ابقاءها مخفية.

لكن الانطباع الغالب لدى المراقبين، انّ عقدة المالية التي أدّت الى تجميد عملية التأليف، تحمل بعداً خارجياً له ارتباط بالاوضاع الاقليمية المتشنجة، وهو ما دفع بالبعض للاعتقاد بأنّ الجمود الحكومي قد يحتاج الى فترة لا تقلّ عن الشهر ونصف الشهر، وهي المدة الفاصلة عن جلاء صورة ​الانتخابات الرئاسية​ الاميركية، وبالتالي، فإنّ الرئيس الفرنسي اخطأ حين الزم مبادرته بمهلة محددة.

ويعتبر هؤلاء، انّ واشنطن ليست مستعدة لمنح ​طهران​ او ابرز حلفائها، والمقصود هنا «حزب الله»، اوراقاً مجانية، في وقت لا يزال شدّ الحبال قائماً وبقوة بينهما. ف​الجيش الاميركي​، وبخلاف ما هو حاصل في ​العراق​ و​افغانستان​، أعاد تعزيز وجوده في ​سوريا​ من خلال استقدام حوالى 100 جندي اضافي، والعديد من هؤلاء هم خبراء في ادارة وتسيير طائرات «الدرون». واللافت انّ ​ترامب​، الذي كان أعلن في وقت سابق خطة لانسحاب قواته من ​الشرق الاوسط​، شهد معارضة شرسة من الحزبين الديموقراطي والجمهوري لانسحاب كامل من سوريا. وهو ما يعني انّ ​المؤسسة العسكرية​ الاميركية ترى بأنّ المهمة لا تزال قائمة، وهي لم تنته بعد في منطقة شمال - شرق سوريا.

وجاء كلام قائد ​القوات​ الاميركية في الشرق الاوسط الجنرال ​فرانك ماكينزي​ لافتاً جداً، حين اعتبر انّ الظروف الاساسية التي سمحت بظهور «داعش»، لا تزال قائمة، وبأنّ لـ»داعش» القدرة على استعادة السيطرة على بعض الاماكن في فترة زمنية قصيرة نسبياً.

كما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مسؤولين امنيين اميركيين، بأنّ لداعش قدرة على العودة مرة ثانية.

اما مدير المركز الوطني الاميركي ل​مكافحة الارهاب​ كريستوفر ميلر، فلقد اعتبر انّ «داعش» يواصل تمدّده عالمياً مع نحو 20 فصيلاً، وهذا ما يدفع للاستنتاج بأنّ «وظيفة» «داعش» لم تنته بعد.

وفي المقابل، فإنّ ​ايران​ المنزعجة جداً من الاجراءات التي تتخذها ​الحكومة العراقية​ بالتنسيق مع الاميركيين، تريد ارسال اشارات الغضب، وانّ احدى اهم هذه الاشارات هي من خلال رفع السقف في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية. اضف الى ذلك، مسار التطبيع الجاري مع ​اسرائيل​ من قِبل ​الامارات​ و​البحرين​، وحيث تبدو ​سلطنة عمان​ على طريق التطبيع الرسمي. ولهذه الدول تماس مباشر مع ايران.

لذلك، فتحت باريس قنوات تواصلها بقوة مع طهران، لكن الجدار الصلب بقي قائماً امام تأمين ولادة الحكومة.

وقيل انّ طهران تواصلت مع قيادة «حزب الله»، وبدل ان تتولّى القيام بالضغوط المطلوبة كما كانت باريس تأمل، فإنّ الايرانيين قالوا لـ»حزب الله» انّهم يتفهمون ويدعمون موقفه في الملف الحكومي. وهو ما قد يعني ضمناً تشجيعًا له للثبات على موقفه.

ورغم ذلك، لا تبدو باريس في وارد الصدام مع ايران، لا بل على العكس، فعلى الرغم من اعلان ​وزير الخارجية​ الاميركية ​مايك بومبيو​ دخول ​عقوبات​ ​الامم المتحدة​ على ايران حيّز التنفيذ، جدّدت الدول الاوروبية، وفي طليعتها ​فرنسا​، رفضها للخطوة الاميركية، ومعتبرة ان لا أثر قانونياً للإجراءات الاميركية المتخذة.

الواضح انّ سلوك ​اوروبا​ بتأثير فرنسي واضح، يتجّه للمرونة مع طهران لا العكس. وقد يكون الكلام الذي نُقل عن موريس غوردول مونتانيو Maurice Gourdault - Montagne معبّراً عن حقيقة ​السياسة​ الفرنسية في الشرق الاوسط. فالرجل الذي شغل منصب امين عام ​وزارة الخارجية الفرنسية​ وتولّى رئاسة الخلية الديبلوماسية ايام الرئيس ​جاك شيراك​ حتى العام 2007، واتُهم بأنّه كان احد الذين وقفوا وراء صدور ​القرار 1559​، تحدث بصراحة في لقاء مغلق جمع ديبلوماسيين اوروبيين ومن بينهم بريطانيون.

هو اعتبر انّ «حزب الله» اساسي في التركيبة اللبنانية، وانّ من يفكر بتجاوزه فهو ليس واقعياً، ذلك أنّه منتخب من شريحة لبنانية واسعة.

صحيح انّ وهج «حزب الله» تراجع قليلاً، لكنه لا يزال القائد الفعلي للطائفة الشيعية في لبنان، وهو ما زال يحتفظ بنفوذ لا بأس به لدى ​الشيعة​ خارج الحدود اللبنانية وصولاً الى ساحات ​العالم العربي​.

واضاف غوردول في لقائه المغلق، بأنّ بلاده تعلم جيداً بأنّ «حزب الله» يصبو للإصلاح واجتثاث ​الفساد​، لكنه وجد نفسه مضطراً لأن يُبرم اتفاقيات سياسية مع المنظومة الفاسدة، انفاذاً لأسلوب الواقعية السياسية. فهو يدرك تعقيدات الوضع اللبناني الداخلي والتشابك السياسي الداخلي، وشبكة المصالح القائمة والتي نشأت ايام الوجود السوري وحظيت بحماية دمشق.

واذ اعترف بوجود تواصل فرنسي مع ايران حيال ملفات المنطقة وايضاً حيال الملف اللبناني، فهو قال بأنّ بلاده لن تقطع خيط التواصل والحوار مع طهران، والهدف هو ان يسهّل الحزب عودة لبنان الى ازدهاره، لأنّ ما يؤمّن حماية لبنان ليست القواعد العسكرية ولا شيء من هذا القبيل، بل عودته الى دوره السابق كمركز للاقتصاد والمال. وهذا ما يفسّر لماذا وضعت فرنسا سابقاً وحالياً جهودها باتجاه لبنان.

وفي قراءته للحوار الجاري مع ايران، والرؤية الفرنسية للدور الايراني المستقبلي، اعتبر غوردول انّ باريس تطمح في الواقع الجيوسياسي الجديد ان تكون ايران في صلب حلول المنطقة، لا ان تبقى في صلب مشاكلها.

وقد تكون هذه القراءة الفرنسية لصورة الاحداث في المنطقة ولبنان فيها شيئاً من الطوباوية، وسط صراع محتدم وعضّ اصابع بين واشنطن وطهران. لكن باريس قد تكون تستند الى الواقع الجديد الذي سيطرأ بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الاميركية.

لكن السؤال الاهم يبقى، هل للبنان القدرة على الرهان على عامل الوقت؟ بالتأكيد لا. فلبنان في قلب الانهيار. وما يفاقم من هول الوضع، الانتشار المتفاقم لجائحة ​كورونا​، والقتال المستميت الذي تنفّذه الطبقة السياسية الفاسدة للاستمرار في ​السلطة​، اياً تكن الاثمان التي يدفعها البلد. وحتى جرعات الانعاش لا تبدو انّها ستتوفر. فباريس لا يمكنها عقد ​مؤتمر​ دولي ثانٍ ل​مساعدة​ لبنان، في ظلّ عدم ولادة حكومة جديدة، وهو ما كان وعد به ​ماكرون​ اللبنانيين خلال زيارته الثانية الى بيروت.

هذا مع انّ الجميع مدرك بأنّ التصاعد المضطرد لأعمال ​العنف​ و​السرقات​، مرشح لأن يتحول اكثر باتجاه الفوضى في الشارع. ولا شك بأنّ رفع الدعم عن المواد والسلع الاساسية، والذي يتأهّب ​مصرف لبنان​ للسير به، سيدفع الى واقع جديد اكثر سوءاً. فعلى سبيل المثال، فإنّ مشهد شوارع لبنان سيتغيّر حتماً عند رفع الدعم عن ​المحروقات​، والامن والامان الاجتماعي سيصبح اكثر خطورة مع ارتفاع اسعار الادوية.

اضف الى ذلك، انّ الاحتقان السياسي سيعيد اجواء الاحتقان المذهبي، ما قد يكرر الاحداث الخطرة التي حصلت مثلما جرى في خلدة، وحيث تنتشر ​العشائر​ السنّية في ​ضواحي بيروت​ و​البقاع​ وعكار. وكذلك استفاقة خلايا «داعش» وسط ظروف ملائمة لها.