لم يتصاعد "دخان" المبادرة الفرنسيّة المترنّحة بعد، لا في شقّه "الأبيض"، من خلال تشكيل حكومة يتوافق عليها مختلف الفرقاء، وتحظى بفرصتها للشروع بورشة الإصلاحات الموعودة، ولا في شقّه "الأسود"، من خلال "اعتذار" رئيس الحكومة المكلّف ​مصطفى أديب​، وبالتالي "نعي" المبادرة، وإعادة الأمور إلى النقطة الصفر.

في الانتظار، يبدو أنّ أديب باقٍ "لا معلّق ولا مطلّق" حتى إشعارٍ آخر، هو الذي لوّح بالاعتذار أكثر من مرّة، لكنّه آثر "التريّث" بفعل الضغوط والاتصالات الفرنسية خصوصاً، من دون أن تلوح في أفق التشكيل أي بوادر "انفراج" سواء على خطّ "أمّ العقد"، في ضوء "الصراع" المستمرّ على "الماليّة"، أو سواها من العقد "المستترة".

وإذا كان أصبح من "المسلّمات" لكثيرين أنّ رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ هو من "يتصدّى" لعملية التأليف، "بالنيابة والوكالة" عن أديب، ثمّة من يتحدّث عن سيناريو مُعتَمَد بغية "إحراق" رئيس الحكومة المكلَّف، و"تكبيله" قبل تشكيل حكومته، فما مدى "واقعيّة" مثل هذا الطرح؟ وهل هو قابل للحياة أصلاً؟!.

سيناريو "الإحراق" يتكرّر!

حين أطلق الحريري "تغريدته" الشهيرة الأسبوع الماضي حول "عُقدة" ​وزارة المال​، ورفضه أن تكون "حكراً" على أيّ طائفة، وإصراره على أن تكون مشمولة بمبدأ "المداورة"، كثرت "التأويلات" حول هذا الموقف، والغايات منه، باعتبار أنّ الحريري المُتَّهَم بأنّه من يؤلّف الحكومة، كان بإمكانه أن "ينأى بنفسه"، لا أن "يثبّت التهمة" على نفسه، بشكلٍ أو بآخر.

ومع أنّ البعض قلّل من شأن موقف الحريري، معتبراً أنّ المقصود منه كان أن "يثبت" لبعض "الرعاة" الخارجيّين وقوفه في وجه "​الثنائي الشيعي​"، وتحديداً "حزب الله"، بعدما أدّت "المهادنة" مع الأخير إلى وضع "فيتو" على عودته ل​رئاسة الحكومة​، إلا أنّ ثمّة في المقابل، خصوصاً ضمن فريق ما يُعرَف بالثامن من آذار، من نظر إلى كلام "الشيخ سعد" بعين "الريبة"، تماماً كأداء الرجل منذ تكليف أديب، بناءً على اقتراحه، علماً أنّ ثمّة من يتوقّف عند "مفارقة" أنّ الحريري لم يتكبّد عناء نفي تصدّيه للتأليف من الأساس.

يتذكّر البعض في هذا الفريق مرحلة ما بعد "انتفاضة" السابع عشر من تشرين، واستقالة حكومة الحريري، حين كان رئيس الحكومة السابق يبدي "انفتاحاً" على تسمية شخصيّاتٍ يمكنها أن "تخلفه" في رئاسة الحكومة، قبل أن يقوم بنفسه بـ"إحراقها" بتسريباتٍ من هنا أو ضغوطٍ من هناك، وبطرقٍ قد تكون "ملتوية"، وهو ما ظهر بوضوح خصوصاً بعد تسمية رجل الأعمال سمير الخطيب، كما الوزير السابق محمد الصفدي، الذي "انفجرت" العلاقة بينه وبين الحريري على خلفية "العصيّ" التي وضعها في "الدواليب".

"هروبٌ للأمام"!

انطلاقاً ممّا سبق، يعتقد البعض في قوى الثامن من آذار أنّ ما يفعله الحريري اليوم مع أديب، يكاد يكون مشابهاً بشكلٍ كبير، فهو "يضغط" عليه لرفع السقف في وجه مطالب "حزب الله" و"أمل"، بعكس ما يفعله هو حين يرأس الحكومة، حيث ينفّذ كلّ طلبات "الثنائي" من دون تفكير أو تردّد. ولا يستبعد هؤلاء أن يكون "حنين" الرجل إلى رئاسة الحكومة لا يزال طاغياً، وأن يكون مخطط "إحراق" أديب من "عُدّة اللعبة" تمهيداً للتوافق عليه بعد جرّ أديب إلى "الاعتذار"، باعتبار أنّ الحريري هو "المُنقِذ"، ولا وجود لغيره على الساحة.

لكنّ مثل هذا "السيناريو" الذي يصرّ مؤيّدو "الثنائي" على اعتباره واقعياً وأكثر، لا يرى فيه خصومهم في المقابل، أكثر من "هروبٍ إلى الأمام"، خصوصاً بعدما اتّضح لـ"حزب الله" و"أمل" أنّهما يغرّدان وحيدين، بعدما افتقدا دعم ومؤازرة أيّ مكوّنٍ آخر، ولا سيما من حليفي "الحزب" الأساسيّيْن، رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، اللذين كان لافتاً "تموضعهما" إلى جانب رافضي "ابتداع" عرفٍ يتعلّق بطائفة وزير المال، كما يصرّ "الثنائي"، علماً أنّ "وساطة" بذلها عون لإقناع "الحزب" بأن يسمّي وزير مال من حصّته باءت بالفشل، وفقاً للتسريبات المتداولة.

أما الحديث عن مسعى لـ"إحراق أديب"، فلا يلقى آذاناً صاغية لدى المقرّبين من "المستقبل"، ممّن يذهبون إلى حدّ اعتباره "مُضحِكاً مُبكياً"، خصوصاً أنّ من "يعطّل" المبادرة الفرنسيّة "على المكشوف"، ومن دون أيّ خجل، بات "يتفنّن" في توجيه الاتهامات يميناً وشمالاً، علماً أنّ بإمكانه ببساطة الوقوف في وجه هذا "المخطّط المزعوم" بتسهيل مهمّة رئيس الحكومة المكلّف، و"تليين" مطالبه، بدل التصريح جهاراً بأنّها "خارج دائرة التفاوض"، ورفع لهجة "التحدّي" إلى المستوى الأعلى، بما "يكبّل" أديب قبل وصوله إلى السراي، ويوحي له بأنّ أيّ خطوةٍ لا ترضي "الثنائيّ" ستطيح به، عاجلاً أم آجلاً.

دليل "إدانة"!

قد لا يكون مُستبعَداً أن يكون الحريري ساعياً للعودة إلى رئاسة الحكومة، كما يروّج خصومه، وأنّه يعمل على "تكتيكٍ" جديد يمهّد الطريق أمام "عودةٍ ميمونة" له تحظى بـ"مباركة" الجميع، في الداخل والخارج على حدّ سواء، بعدما اصطدمت سابقاً بـ"فيتوات" بالجملة ألزمته بتسمية من "ينوب" عنه، برضاه أو من دونه.

وقد لا يكون مُستبعَداً في المقابل، أن يكون "الثنائي" يحاول "الهروب إلى الأمام"، بعدما أدرك أنّه بات "يغرّد" وحيداً، من دون أيّ دعمٍ ومساندة، ما دفعه إلى اللجوء إلى "تطييف" الخطاب السياسيّ الذي انحدر في الساعات الماضية إلى المستوى الأدنى، مع دخول، أو ربما "إدخال"، رجال الدين على خطّه، وبعضهم ممّن يُحسَبون على "المعتدلين".

وإذا كان هذا الخطاب ضرب في الصميم، النظريات "الجميلة" التي كانت تُطلَق حول "المؤتمر التأسيسي" و"​الدولة المدنية​" وغيرها، فإنّ الأكيد أنّ "تقاذف" كرة المسؤولية كما هو حاصلٌ اليوم ليس الحلّ، وأنّ الجميع سيتحمّلون مسؤولية تفويت ما اتفقوا على أنّها "الفرصة الأخيرة" لإنقاذ بلدٍ، أسقطوه جميعاً في الهاوية.

أما المفارقة "المُدهِشة" وسط هذه "المعمعة"، فتبقى في إصرار الجميع على التعامل مع ​تأليف الحكومة​ في السياق "التقليديّ"، من دون اعتبار لكلّ المتغيّرات الطارئة على المشهد، وما "سجال المرجعيات" المؤسف سوى أكبر دليل "إدانة" في هذا السياق...