منذ سنوات عدّة يُحاول أكثر من طرف سياسي ​لبنان​ي تمرير قانون ​العفو العام​، تارة بحجّة إكتظاظ السُجون والأوضاع غير الإنسانيّة فيها، وطورًا بحجّة المُحاكمات التي تسير ببطئ شديد، قبل أن يأتي وباء ​كورونا​ ويُعطي هؤلاء حجّة جديدة لإعادة تفعيل مساعيهم الرامية إلى تبييض سجلات آلاف الإرهابيّين والمُجرمين ورجال العصابات وتجّار المُخدّرات، إلخ. وبعد أن بدأ وباء كورونا بالتفشّي في صُفوف المَوقوفين في سجن روميه، إرتأى رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​ أنّ الفُرصة سانحة لتمرير قانون العفو، فدعا هيئة مكتب المجلس للإنعقاد اليوم الأربعاء لدرس قوانين مُختلفة، من بينها قانون العفو العام. فهل سيخرج المَساجين إلى الحريّة هذه المرّة؟.

بداية لا بُد من التذكير أنّ أكثر من يضغط لتمرير العفو، هو كلّ من "الثُنائي الشيعي" الحريص على الإفراج عن العديد من المساجين، وعن إسقاط المُلاحقات عن آلاف المَطلوبين من وجه العدالة، وذلك في جرائم مُرتبطة بالإتجار بالمُخدّرات، وبتشكيل العصابات المُسلّحة على أنواعها، وكذلك "تيّار المُستقبل" الحريص بدوره على الإفراج عن العديد من الإسلاميّين المُتشدّدين المَوقوفين بجرائم إرهابيّة مُختلفة. وآخر مُحاولة لتمرير قانون العفو كانت تمّت خلال جلسة نيابيّة عامة عُقدت في 28 أيّار الماضي، وقد جرى تطيير نصابها قُبيل عرض قانون العفو على التصويت آنذاك، وذلك بعد إنسحاب نوّاب "المُستقبل" إحتجاجًا على إستثناء مُتهمين بقتل عناصر الجيش من العَفو، بضغط من "التيّار الوطني الحُرّ" الذي كان قد فقد إهتمامه بقانون العفو مع مرور الوقت، بسبب إنعدام أهمّيته بالنسبة إلى الجنوبيّين الذين فرّوا بداعي الخَوف على حياتهم إلى ​إسرائيل​ عقب إنسحاب قُوّات الإحتلال الإسرائيلي منه في العام 2000، حيث تفرّقت أغلبيّة هؤلاء النازحين في مُختلف أنحاء العالم، بعد أن مُنعوا من العَودة إلى لبنان في العقدين الماضيين.

واليوم، تبدو الفُرصة سانحة أكثر من أيّ وقت مضى بالنسبة لكلّ من "​الثنائي الشيعي​" و"المُستقبل" لإقرار قانون للعفو، يُناسب مطالب كلّ منهما، في مُفارقة لافتة جدًا، حيث أنّ هذين الطرفين يختلفان تقريبًا على كلّ الملفّات السياسيّة والإقتصاديّة، بينما يلتقيان على قانون العفو عن المُجرمين والمَطلوبين! وحتى في حال تصويت بعض النوّاب والكُتل ضُدّ قانون العفو المُنتظر، فإنّ العدد قد لا يكون كافيًا لإيقاف المسار القانوني لإقرار العفو، والذي يتمّ تحت عنوان تجنّب كارثة إنسانيّة في السُجون تتمثّل بإحتمال إنتقال وباء كورونا إلى كل السُجناء، وبوفاة العديد منهم، في المُستقبل القريب جدًا، ما لم يتمّ التحرّك بسرعة. ويعمل الساعون إلى إخراج المساجين على الخط القانوني لتحقيق هذا الهدف، بالتزامن مع تسريب معلومات أكيدة عن تحضيرات جارية على قدم وساق، لتنفيذ أعمال شغب واسعة جدًا في السُجون، وفي طليعتها ​سجن رومية​، وعن تحضيرات أخرى لتنفيذ أعمال شغب وقطع للطُرقات في ​البقاع​ و​الشمال​ وغيرها من المناطق، وذلك في حال عدم إقرار قانون العفو بالسرعة اللازمة!.

والمُخيف في الأمر أنّ العمل على تمرير قانون العَفو، بحجّة تفشّي وباء كورونا في السُجون، يتمّ في أسوأ توقيت مُمكن على صعيد القُدرة على إستيعاب وعلى ضبط آلاف المساجين الذين سيخرجون إلى الحريّة، وعشرات آلاف المَطلوبين والمَحكومين غيابيًا والذين سيعودون إلى التحرّك بحريّة في مُختلف المناطق اللبنانيّة. فالبطالة في أعلى نسبها في لبنان، في مُختلف الميادين، ما يعني أنّ كل هؤلاء المساجين والمَطلوبين لن يجدوا أيّ وظيفة تؤمّن لهم قُوتهم اليومي–حتى لوّ سلّمنا جدلاً أنّهم تابوا وقرّروا عيش حياة مُستقيمة. وبالتالي كيف سيكون الوضع عليه في حال عودة المئات، وربّما الآلاف، إلى المُمارسات والأعمال الجرميّة التي إعتادوا عليها، في ظلّ إرتفاع مُرعب في عدد عمليّات السرقة والخطف مقابل فدية والسطو المُسلّح في لبنان، بسبب الضائقة المعيشيّة الخانقة، وفي ظلّ غضّ نظر كامل عن الزراعات المَمنوعة أيضًا؟! أكثر من ذلك، إنّ جريمة كفتون في الماضي القريب، والتي أظهرت عودة بعض الخلايا الإرهابيّة النائمة إلى التحرّك، تشكّل جرس إنذار آخر إلى مخاطر ما يجري تحضيره للمُجتمع اللبناني، في حال إقرار العفو العام بهذا التوقيت، علمًا أن أربعة عناصر من القوى الأمنيّة الرسميّة اللبنانيّة دفعوا بالأمس القريب حياتهم، عند مُحاولة إلقاء القبض على الإرهابي خالد التلاوي الذي كان مَسجونًا في السابق، وعاد إلى النشاط الإرهابي بعد فترة قصيرة من إطلاقه من السجن! وبالتالي، ماذا سيكون الوضع عليه إذا عاد العشرات أو ربما المئات من الإسلاميّين المُتطرّفين الذين سيُفرج عنهم إلى النشاط الإرهابي؟!.

من جهة أخرى، لا بُد من الإشارة إلى أنّ رئيس الجمهوريّة العماد ​ميشال عون​ يعمل بالتنسيق مع وزيرة العدل في الحُكومة المُستقيلة، ​ماري كلود نجم​، على إعداد لائحة إسميّة لمساجين لهم أولويّة بالخروج من السجن، لإخراجهم بقانون عفو خاص قريبًا جدًا، في مُحاولة لتخفيف الإكتظاظ، ولخفض مخاطر إنتشار وباء كورونا، لكن من دون تعريض الأمن المُجتمعي للخطر عبر العفو الشامل عن مجموعات واسعة من المساجين–كما يُحضّر له.

في الخلاصة، البعض يدّعي أنّ إقرار قانون العفو العام يجب أن يتمّ تجنّبًا لمشاكل شتّى تلوح في الأفق، لكن ماذا عن المشاكل الخطيرة والمُميتة التي سيُسبّبها إطلاق آلاف الإرهابيّين والمُجرمين دُفعة واحدة، في ظلّ غياب تام للإستقرار المَعيشي، وفي ظلّ إنعدام كامل لفرص العمل، وخاصة في ظلّ هشاشة الأمن المُجتمعي وإحتمال دُخول أجهزة إستخبارات خارجيّة على خط ضرب الإستقرار؟!.