"ذاهبون إلى جهنّم إذا لم تتألّف الحكومة". قالها رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، بكلّ صراحةٍ ممزوجة بالمرارة، في ضوء "التصلّب" في المواقف التي تصطدم بها "مفاوضات" التأليف العالقة بين "سندان" رئيس الحكومة المكلَّف ومن يقف خلفه، و"مطرقة" الثنائيّ الشيعيّ المتمرّد ضدّ ما يعتبرها "بِدَعاً" جديدة في التأليف.

ولم تمرّ 24 ساعة على تصريح عون "التهويليّ-الواقعيّ" في آنٍ، حتى خرج رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ ببيانٍ صُنِّف "مبادرة"، ولم يَخلُ من العبارات "القاسية" التي حاول الرجل من خلالها أن ينصّب نفسه مجدّداً "المتنازل الأكبر" في الجمهوريّة، أو "متجرّع السّمّ" وفقاً للعبارات التي "تعمّد" انتقاءها بعناية.

أراد كلٌّ من عون والحريري أن يحلّا "عقدة" ​وزارة المال​، ويمهّدا الطريق أمام "الانفراج" الحكوميّ، تفادياً لسيناريو "نعي" المبادرة الفرنسية، وما يمكن أن يجلبه من "خراب"، بيد أنّ كلّ المؤشّرات لا تزال تدلّ على أنّ "الفرج" لا يزال بعيداً، وأنّ اللبنانيين أقرب ما يكونون إلى "جهنّم" و"السمّ"، سواء أشُكّلت حكومة أم لم تُشكَّل...

هل أخطأ عون؟!

في مؤتمره الصحافي الأخير، قدّم رئيس الجمهورية "اقتراحاً" قد يكون شديد الأهمية لحلّ الأزمة الحكوميّة الحاليّة، ولكن قبل ذلك، للتأسيس لأعراف جديدة، بعيداً عن "القيود" الطائفية المتغلغلة في النظام، لكنّ أحداً لم يكترث له، إذ كانت عبارة "رايحين ع جهنّم" التي قالها عون، رداً على أحد الأسئلة، كافية لتحوير الاهتمام كلّه إلى مكانٍ آخر، بما يخدم الغايات السياسية.

هكذا، امتلأ الفضاء "الافتراضي" بحفلات استهزاءٍ وشماتة بسبب عبارة الرئيس عون، التي تصدّرت كلّ الاتجاهات في وسائل التواصل، والتي وضعها البعض في خانة "التهويل" الذي لا ينبغي على رئيس الجمهورية الوقوع في "فخّه"، فيما قرأ فيها البعض الآخر إعلاناً صريحاً بـ"العجز والاستسلام" يتطلّب من الرئيس مقاربة مختلفة بالنتيجة، لإفساح المجال أمام من يستطيع منع جرّ البلاد إلى السيناريو "الجهنّمي" بدل "التبشير" به.

لكن، أبعد من "الحملات" على عون، وبمُعزَلٍ عن خلفيّاتها والغايات المنشودة من ورائها، قد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ الرئيس لم يخطئ في "تشخيصه للواقع"، وإنّ "الصدمة" التي أحدثها تصريحه قد تكون مطلوبة، لأنّ ثمّة بين اللاعبين الأساسيّين من لا يزال مُصِرّاً على "إنكار الواقع"، والتعامل مع المعطيات الحكوميّة المستجدّة كما كان يتعامل منذ أعوامٍ طويلة، وفق منطق "​المحاصصة​" أولاً وأخيراً.

انطلاقاً من ذلك، لا ينبغي من حيث المبدأ، اعتبار "مصارحة" رئيس الجمهورية للبنانيين بالواقع "المُرّ" خطيئة ارتكبها، ولو أنّ المطلوب منه، وهو على رأس البلاد، عدم الاكتفاء بالتفرّج، من دون أن يعني ذلك "صحّة" الفرضيات التي سارع "العونيّون" لتبنّيها لجهة أنّ "الحملة" عليه جزء من "مؤامرة كونيّة" تستمرّ فصولاً على العهد، في "مبالغةٍ" لم تعد تستقيم في ظلّ واقع "سوداوي" للبلاد، لا يتنكّر له الرئيس كما يفعل بعض المحسوبين عليه.

بأيّ "صفة"؟!

عموماً، لم تجد مبادرة عون "الصدى" المطلوب منها، أولاً لأنّ عبارة "جهنّم" طغت عليها، فتجاهل معظم الأفرقاء ما تضمّنته، وثانياً لأنّها "وُلِدت ميتة" برأي كثيرين، باعتبار أنّها لم تُلبِّ "اشتراط" الثنائيّ الشيعيّ أن تكون وزارة المال من نصيبه، وقوله لعون ولغيره جهاراً، ومن دون تردّد، إنّ هذا "الشرط" ليس ضمن "دائرة التفاوض"، بل "لا بحث به" من الأصل.

ومن هذه "الثغرة"، تسلّل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري ليطرح "مبادرة شخصيّة" بدت قابلة للحياة أكثر، وإن لم تحظَ برضى زملائه في نادي رؤساء الحكومات السابقين، تقوم على مبدأ "غالب ومغلوب"، بموافقته على تكريس "عرف" منح وزارة المال للشيعة، "لمرّة واحدة فقط"، من دون أن "يصدّق" على حقّ "الثنائيّ" الحصري بتسمية شاغلها، كما يطالب.

ومع أنّ أوساط "الثنائي" سارعت إلى الترحيب بمبادرة الحريري، بوصفها "خطوة إلى الأمام"، إلا أنّها سارعت أيضاً إلى عدم اعتبارها "الخاتمة المرجوّة"، موحية بأنّ أمر تسمية وزرائها عائدٌ لها، ولو نشطت بعض "المَخارِج" في الكواليس، لجهة إمكانية حصول "اتفاق" بين "الثنائي" ورئيس الحكومة المكلّف على اسم شخصيّة شيعية "مستقلّة"، أو غير حزبيّة بالحدّ الأدنى، على غرار الوزير الحاليّ ​غازي وزني​.

لكن، بمُعزَلٍ عن النتائج التي يمكن أن "تفضي" إليها "مبادرة" الحريري، ثمّة من قرأ فيها "إدانة" لـ "الشيخ سعد"، ومن اعتبر أنّ الرجل "حشر نفسه في الزاوية" قبل أن "يحشر الثنائي"، كما توخّى. ويسأل أصحاب هذا الرأي عن "الصفة" التي ينطلق منها الحريري حتى يعلن "موافقته" على أن يسمّي رئيس الحكومة المكلّف شخصية شيعية لشغل وزارة المال، وهو الذي ينبغي أن ينأى بنفسه أصلاً عن عملية التأليف، أو أن يكون دوره "استشارياً" ليس إلا.

ويرى هؤلاء أنّ الحريري أكد في بيانه المؤكّد، وثبّت كلّ ما كان يُحكى في التسريبات الصحافية والإعلامية، عن أنّه من يؤلّف الحكومة، وكأنّه هو رئيس الحكومة الأصيل، فيما ​مصطفى أديب​ هو "الوكيل"، أو رئيس "حكومة الظلّ"، ولعلّها مفارقة مثيرة للانتباه أن يكون الحريري ينفّذ صراحةً اليوم، ما كان ينتقد "خصمه" الوزير السابق ​جبران باسيل​ على القيام به، وهو الذي اتُهِم مراراً وتكراراً بأنّه "الحاكم الفعليّ" في الجمهورية، تماماً كما كان يُنتقَد على تدخّلاته في تأليف الحكومات، وهو ما يحوّله الحريري وزملاؤه اليوم إلى ما يشبه "العرف".

إلى "جهنّم"!

"يتحفّظ" المحسوبون على "​الثنائي الشيعي​" على الكثير من "التفاصيل" الواردة في بيان الحريري، من حديثه عن "مرّة واحدة فقط"، في مسعى لتكريس "عرف" مناهض لذلك الذي يسعى "الثنائي" لتكريسه، وصولاً إلى "مصادرته" حقّ كلّ فريق بتسمية وزرائه بنفسه، أو بالحدّ الأدنى، اقتراح أسماء يختار رئيس الحكومة المكلف واحداً منها.

لكنّ أكثر ما يتحفّظ عليه "الثنائي" هو قول الحريري إنّه "يتجرّع السمّ" بموافقته على مطلب منح وزارة المال للشيعة. ويذهب المحسوبون على "الثنائي" بعيداً في تربيح الحريري "جميلة" العمل مراراً وتكراراً لعدم تجرّعه السمّ فعلياً، منذ مرحلة استقالته الشهيرة في ​المملكة العربية السعودية​، وصولاً إلى ما أعقب انتفاضة السابع عشر من تشرين، وحتى تكليف مصطفى أديب بـ "مباركته" أخيراً.

لكن، بين مبادرة الحريري، وتحفّظات الثنائي، شيءٌ واحدٌ يتثبّت أكثر فأكثر، وهو أنّ البلاد ذاهبة بكلّ حزم نحو "جهنّم" الذي حذّر منه رئيس الجمهورية، بل إنّها باتت في قلبه، كيف لا وثمّة من لا يزال "يتغنّج" على طائفة وزير من هنا، واسمه من هناك، فيما الواقع الاقتصادي والاجتماعي لا ينبئ سوى بالمآسي، التي لا ينفع "برستيج" الوزارة في التقليل من وقعها!