احتار الكثيرون في كشف لغز سر "المناعة" التي اكتسبها رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ ضد السمّ. ففي بيانه "الانقاذي" الاخير، كان واضحاً تعمّده ادخال عبارة "مرة جديدة، أتخذ قراراً بتجرع السم"(حتى لو لم يكتب البيان بنفسه بل من قبل مستشاريه ومساعديه، الا انه وافق على مضمونه وبالتالي يكون قد تبنّاه بشكل كامل لانه صاحب القرار بالموافقة عليه ام لا) وهي عبارة تحمل الكثير من الدلالات ان من حيث التوقيت او من حيث الوضع الذي يمرّ به لبنان.

القراءة الاولى السريعة لهذه العبارة تدل بشكل لا يحمل الشك ان الحريري سبق وتجرّع السمّ سابقاً، دون ان يعاني من اي عوارض، لا بل نجح في العودة مجدداً الى الساحة السياسية بفضل ابقائه على قنوات الاتصال مفتوحة بشكل دائم ومتواصل مع رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، الذي لم يتعب ولم يهدأ في التسويق له في مرحلة ما قبل رئيس الحكومة المستقيل ​حسان دياب​، وما بعدها.

الحيرة طالت ايضاً نوع السمّ الاول الذي تجرّعه الحريري، فهل هو سمّ التسوية السياسية التي حصلت من قبل غالبيّة الاطراف اللبنانيّة لانتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيساً للجمهورية ( بعد ان اعتبر الحريري بعد استقالته وخلافه مع رئيس ​التيار الوطني الحر​ جبران باسيل انه اخطأ في دعم ترشيح عون الى الرئاسة)؟ ام قبوله راضياً ومسروراً بالتسوية التي قام بها مع ​حزب الله​ برعاية بري نفسه، والتي افضت الى التساكن والتآخي مع الحزب وتحييده عن كل الامور الداخلية، قبل ان يستفيق مجدداً ويبدأ حملته على الحزب (دون الوصول الى الشرخ الكامل للعلاقة) والدعوة الى التهدئة وعدم التعرض للحزب بعد صدور حكم ​المحكمة الدولية​ في قضية اغتيال والده)؟ ام ان السمّ هو في اعتباره انه يضحي بشعبيته لدى مؤيديه ومناصريه، وبالعصب السنّي حين يكون قد "تنازل" للطائفة الشيعية القبول بشروط ممثليها في الحكومة؟ في المبدأ، مشكور الحريري على مبادراته الكريمة، ولكن في الواقع لا يمكن لاحد ان ينسى انه هو نفسه احد ابرز الاسباب التي اوصلت البلد الى ما هو عليه اليوم، مع التشديد على أنّه أحد الأسباب وليس الوحيد طبعاً، وهو ركب كغيره، موجة الانقاذ من المصائب التي اغرقوا فيها لبنان على كافة المستويات. ولا يمكن ايضاً اغفال واقعة اخرى مفادها انه لا يمكن اعتبار اي من الاسباب الثلاثة المذكورة آنفاً بمثابة سمّ، لانّ الحريري سعى وعمل وخطط للقيام بكل هذه الامور، واستفاد منها أكان عبر الاتفاق على ترؤسه حكومات العهد (بعد التسوية الرئاسيّة)، او عبر تمرير المشاريع الاساسيّة في الحكومة (التسوية مع الحزب)، او الظهور بمظهر المنقذ والمخلص للبلد (امام مؤيده ومناصريه والشارع السنّي).

اما جرعة السمّ الثانية التي تحدث عنها الحريري في بيانه، فهي لا تحتمل التأويل وتتعلق بقبول مطلب ​الثنائي الشيعي​ بحقيبة الماليّة مع "تمويه" لانقاذ ماء الوجه يقضي بأن تكون لمرة واحدة، وبعدم اعتبارها عرفاً. ولكن في الواقع ايضاً، لا يمكن وصف الخطوة بالسمّ، إذ أوحى الحريري انه هو الرئيس المكلّف ​تشكيل الحكومة​ او على الاقل انه الذي "يمون" على من تمّت تسميته لتأليف الحكومة اي ​مصطفى اديب​. اضافة الى ذلك، اوحى انه المتحدث باسم الطائفة السنّية وان حقيبة الماليّة هي لهذه الطائفة، وان قبوله يعني تخلّي السنّة عن هذه الحقيبة واعطائها (لمرة واحدة) للشيعة، دون أيّ اعتبار للطوائف الاخرى المشاركة في الحكومة. وبغض النظر عن كل هذه العوامل، ألا يراهن الحريري على عودته الى السراي الحكومي مباشرة بعد انتهاء مهمّة اديب التي حددها رئيس ​تيار المستقبل​ في بيانه: "... مهمة الحكومة الوحيدة هي اصلاحية اقتصادية مالية وادارية بحت، لاشهر تسمح بوقف الانهيار"، وفي ذلك دليل ساطع على انه يتحضّر للعودة بعد اشهر، عند انتهاء مهمّة اديب، موحياً ايضاً انّ هذا الامر اتى بالتوافق مع الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​.

وبذلك، يظهر ان "مناعة" الحريري ليست ضد السمّ، وليس هناك من دواء ساحر يأخذه قبل تناوله هذه الجرعات، لأنّ ما يقدم على تناوله بكل بساطة ليس سمّاً.