شيئاً فشيئاً، بدأت "تتكشّف" معالم ​الأزمة​ الحكوميّة أكثر فأكثر، ليبدأ الفصل العمليّ بين الجزء "الظاهر" منها، والمتعلّق بحصّة "الثنائيّ الشيعيّ"، وحقيبة المال تحديداً، وما هو "مُبطَن"، وينتظر "مصير" العقدة الأولى، ليُبنى عليه المقتضى اللازم.

فبعدما "ثبّت" رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ بما لا يدع مجالاً للشكّ، دوره "الجوهريّ" في التأليف، من أمام أو من خلف رئيس الحكومة المكلّف ​مصطفى أديب​، بدأ الحديث "على المكشوف" أيضاً، عن "تصفية حسابات" يمارسها، لا مع "الثنائيّ"، بل مع "العهد"، ممثَّلاً برئيس الجمهورية ​ميشال عون​.

لعلّ بياني الحريري وعون الأخيريْن أكّدا هذا الانطباع، بصورةٍ أو بأخرى، حين "حصر" الأول تسمية "كلّ" الوزراء برئيس الحكومة المكلّف، وحده دون أيّ شريك، ما دفع مكتب الإعلام في ​رئاسة الجمهورية​ لإصدار بيانٍ سعى إلى وضع النقاط على حروفها، منعاً لأيّ "اجتهاداتٍ وبِدَعٍ" لا أساس دستورياً لها.

"تحفّظ رئاسيّ"

منذ اللحظة الأولى لتكليف مصطفى أديب ​تشكيل الحكومة​، أظهر رئيس الجمهورية، ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق ​جبران باسيل​، "ليونة" غير اعتياديّة، ربطها كثيرون بسيف العقوبات المُسلَّط على رأس الأخير، فيما ربطها آخرون بـ"دقّة" اللحظة وصعوبتها، في ضوء "الكوارث" التي حلّت بالبلاد أخيراً، والتي باتت تتطلّب من القيادات مقاربة مختلفة، لا تمتّ إلى منطق "​المحاصصة​" بصلة.

لكن، منذ اللحظة الأولى، بدأت "الريبة" تسكن المحيطين برئيس الجمهورية، بعدما بدأ الحديث عن "دورٍ" يلعبه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في عملية "التأليف"، خلافاً للدستور والقانون، ومع خروج الحريري بمواقف عدّة، أوحى من خلالها أنّه من يؤلّف الحكومة عملياً، فيوافق على طرحٍ من هنا ويرفض آخر من هناك، وكأنّ رئيس الحكومة المكلّف مجرّد "دمية" بين يديْه، يحرّكها كيفما يشاء.

سرعان ما تحوّل "التحفّظ" إلى "امتعاض" مع "المبادرة" التي أطلقها الحريري، والتي حاول البعض قراءتها للوهلة الأولى على أنّها "تلقّفٌ" لتلك التي أطلقها رئيس الجمهورية نفسه الإثنين الماضي، فإذا بالمحسوبين على عون يفسّرونها، على النقيض من ذلك، على أنّها "ردّ ضمنيّ" على طرح رئيس الجمهورية، بل محاولة لـ"إحراجه" في الشكل والمضمون، عبر تمرير سلسلة "ألغام"، ربما استباقاً لما يلي حسم "العقدة الشيعية".

ويقول العارفون إنّ أكثر ما "استفزّ" مؤيّدي رئيس الجمهورية في بيان الحريري، يتمثّل في قول الحريري صراحةً إنّه قرّر "مساعدة" أديب على إيجاد مَخرَج بتسمية وزير ماليّة مستقلّ من ​الطائفة الشيعية​، "يختاره هو، شأنه شأن سائر الوزراء"، خصوصاً أنّ هذا التعبير فُهِم منه، على طريقة "الحكي إلك يا جارة... اسمعي يا كنّة"، إيصال رسالة إلى رئيس الجمهورية مفادها "إسقاط" أيّ دورٍ له في تسمية الوزراء، وهنا بيت القصيد.

معركة "خاسرة"!

صحيحٌ أنّ كلام الحريري "لم يُترجَم" لغاية تاريخه في تصريحات رئيس الحكومة المكلّف، الذي لا يزال يؤكد في مواقفه "النادرة" نسبياً على "التشاور" مع رئيس الجمهورية، إلا أنّ "إشارة" الحريري لم يكن لتمرّ مرور الكرام، ولذلك كان الردّ الضمنيّ عليها عبر بيان مكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية.

وإذا كان ردّ الرئاسة الرسميّ انطلق من عنوانٍ دستوريّ واضحٍ ولا لبس فيه أنّ الرئيس "معنيّ بالمباشر" بعملية ​تأليف الحكومة​، شاء من شاء وأبى من أبى، خصوصاً أنّه شريكٌ في التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة، ومن دون توقيعه لا يمكن لأيّ حكومةٍ أن تبصر النور، فإنّ بين المحسوبين على عون من يتحدّث جهاراً عن معركةٍ سياسيّةٍ "خاسرة" يخوضها الحريري اليوم في وجه "العهد".

لا يتردّد هؤلاء في التصديق على فرضية "تصفية الحسابات" التي يقوم بها الحريري، خصوصاً أنّه لا يزال يحمّل عون، ومن خلفه باسيل، مسؤولية "الإطاحة به" من ​رئاسة الحكومة​، على رغم أنّ "حلفاءه" هم الذين مانعوا عودته إلى السراي بالدرجة الأولى. ولعلّ ما يعزّز "قناعة" مناصري عون هذه، تكمن في أنّ الحريري يحاول أن يحقّق، من خلال أديب، ما عجز عن تحقيقه بنفسه، بعدما اصطدمت "الشروط" التي أعلنها لرئاسة الحكومة بـ "فيتو" من كانوا يؤيّدون عودته، ولا سيما لجهة "تفرّده" بتسمية الوزراء، دون استشارة أحد.

لكن، هل يمكن أن يكون مثل هذا "الكباش" مقدّمة للمزيد من العقد الحكوميّة، في حال تمّ حلّ "العقدة الشيعية"، في الساعات المقبلة؟ قد لا تكون الإجابة محسومة، وإن كان المحسوبون على عون يؤكدون أنّه ماضٍ في التسهيل للحدّ الأقصى، وحتى اللحظة الأخيرة، لكنّهم يجزمون في الوقت نفسه، أنّ الأخير لن يقبل بالمسّ بصلاحيّاته وحقوقه، مهما كان الثمن، ولن يوافق على تحويله إلى مجرّد "باش كاتب" يوقّع المرسوم الذي يحمله رئيس الحكومة المكلّف، بعد أن يَرِده من "عرّابيه"، في "سابقةٍ" لم تحصل في تاريخ تشكيل الحكومات.

"يقينٌ" واحد!

ثمّة من يعتقد أنّ "الاشتباك" غير المباشر الذي رُصِد في الساعات الماضية بين عون والحريري، ليس سوى مقدّمة لظهور "العقدة المسيحيّة"، بصورة تلقائية ومباشرة، بمجرّد حلّ "العقدة الشيعية"، كواحدة ربما من سلسلة من "العقد المخفيّة والمستترة" التي تنتظر دورها.

وثمّة من يعتقد أنّ حصول "​الثنائي الشيعي​" على حقيبة المال، سيعيد الأمور إلى نقطة الصفر، إذ سيُطالب عندها رئيس الجمهورية، ومن خلفه "الوطني الحر"، بالتمسّك بحقائبه أيضاً، طالما أنّ مبدأ "المداورة الشاملة" قد سقط، وبالتالي لا ينبغي أن يسري على فريق دون غيره.

وثمّة من يعتقد أنّ "المعركة" القائمة اليوم بين الحريري و"الثنائي" ليست أصلاً سوى مقدّمة للمعركة الكبرى بين الحريري وعون، التي يسعى لجرّ البلاد إليها، لأنّ "مشكلة" الرجل لم تكن يوماً مع "الثنائي"، بل هي مع "شركائه" في "​التسوية الرئاسية​".

لكن، وسط كل هذه الاعتقادات، التي تحتمل الصواب والخطأ، "يقينٌ" واحدٌ يجمع المتخاصمين، وهو أنّهم لا يزالون "عالقين" في خلافاتهم "السطحيّة"، من دون أن يغيّرهم لا انهيارٌ اقتصادي غير مسبوق ينذر بالأسوأ، ولا ​انفجار​ منحوسٌ ومشؤومٌ غيّر وجه عاصمة ​لبنان​، وقضى على نصفها، وربما أكثر...