لم يعد من الممكن بعد اليوم الحديث عن طبقة سياسية في لبنان، التعبير الأدق هو أن البلاد أمام عصابة حاكمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، تبحث بأي وسيلة عن تحقيق مصالحها الخاصة مهما كان الثمن، دون الأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي وصلت اليه البلاد والمواطنين بفضلها.

منذ نحو عام تقريباً، شهد لبنان العديد من التحولات التي كان من الممكن أن تودي بحكّام أيّ دولة أخرى إلى السجون، ونتيجة لسنوات طويلة من الفساد والسرقات، جاء الانهيار المالي والاقتصادي، وصولا إلى الانفجار الغامض الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي، من دون أن يرى اللبنانيون مسؤولاً واحداً أمام القضاء يحاكم بسبب ما حصل او يُحفَظَ كوديعة في السجن.

عند بروز المبادرة الفرنسية، ظنّ الكثيرون أن النهج الماضي في التعامل مع عملية تشكيل الحكومة لن يستمر، على قاعدة أن البلاد لم تعد تحتمل المزيد من التأخير أو المماطلة أو انتظار أحداث خارجية، كالانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة على سبيل المثال، لكن ما هي إلا أيام، بعد تسمية رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب، حتى عادت الأمور إلى ما كانت عليه.

رؤساء الحكومات السابقين: ​سعد الحريري​، ​نجيب ميقاتي​، ​فؤاد السنيورة​، تمام سلام، ظنوا أنّ الفرصة سانحة أمامهم من أجل تحسين أوراق قوتهم، على قاعدة فرضهم الشروط على رئيس الحكومة المكلف، لتشكيل الحكومة التي يريدون من دون التواصل مع أي من ​الكتل النيابية​، وبالتالي الإطاحة بالأكثرية النيابيّة بناء على طلب بعض الجهات الاقليمية والدولية الراعية لهم.

في المقابل، كان "​الثنائي الشيعي​"، أي "حزب الله" و"حركة أمل"، يتحيّن الفرصة للانقلاب على هذه المعادلة، فارضاً شروطه على رئيس الحكومة المكلف، من التمسك بالحصول على حقيبة المالية إلى التشدّد في تسمية كل الوزراء الشيعة، مقفلاً الباب أمام أي محاولة معالجة لا تتضمن الاعتراف بشروطه كاملة، وإلا فلتذهب البلاد إلى المؤتمر التأسيسي لتغيير النظام القائم، بعيداً عما إذا كان ذلك أولوية اليوم أو من الممكن الوصول إليه من دون الذهاب إلى "جهنم".

على هامش هذه المعركة، التي يدفع جميع المواطنين ثمنها من لقمة عيشهم، كانت بعض القوى الأخرى تظهر "العفة" في التعامل مع الملف الحكومي، إلا أنها في حقيقة الأمر كانت تتحين الفرصة لمعرفة مصيرها للدخول على خط المواجهة، فالتيار "الوطني الحر" لم يتأخر بالولوج من بوابة تسمية الوزراء المسيحيين، سواء بالمباشر أو من بوابة صلاحيات ​رئيس الجمهورية​ في التشكيل.

ما تقدم ينطبق أيضاً على تيار "المردة"، الذي لم يتأخر في الحكومة السابقة عن المطالبة بالحصول على حصته، انطلاقاً من المواجهة التي يخوضها مع "الوطني الحر"، في حين ذهب حزب "القوات اللبنانية" إلى خيار دعم رئيس الحكومة المكلّف، على قاعدة أن مصلحته، في الوقت الراهن، تكمن في الانقضاض على الأكثرية النيابية لا أكثر.

من جانبه، كان "الحزب التقدمي الاشتراكي" يلتزم بخيار الابتعاد عن الواجهة، على قاعدة أنه في نهاية المطاف سيضمن حصته من خلال التمثيل الدرزي، كما فعل في حكومة تصريف الأعمال التي لا يزال حتى الآن يصر على عدم تمثيله فيها عبر وزيرة الاعلام منال عبد الصمد، بينما كان "الحزب الديمقراطي اللبناني" يذكر، بشكل شبه يومي، بضرورة التواصل مع الكتل النيابية، بهدف حجز مقعد وزاري له.

هنا، يبرز دور رئيس الحكومة المكلف غير القادر على اتخاذ أي قرار أو موقف، فهو مكبّل من الراعي الفرنسي ومن رؤساء الحكومات السابقين ولا يريد الدخول في مواجهة مع أي فريق، الأمر الذي يزيد من صعوبة مهمته، نظراً إلى أنه بحاجة للعودة إلى التشاور عند أي منعطف، لمعرفة ما هو مسموح له بتقديمه وما هو محرم عليه، وكأنه غير مقتنع بموقعه الجديد ويظن أنه لا يزال سفيراً في ألمانيا، الأمر الذي قاده في نهاية المطاف إلى تقديمه اعتذاره.

ما ينبغي أن يدركه هؤلاء، اليوم قبل الغد، أن اللبنانيين كفروا بهم وبما يقومون به على هذا الصعيد، فحياة المواطنين ومصيرهم أهم من كل ألعابهم السياسية ومصالحهم وحصصهم، وهمهم هو في كيفية تأمين حياة كريمة لهم ولأبنائهم من دون أن يكونوا مضطرين للهجرة، الشرعية أو غير الشرعية، في حين هم لم يتوانوا عن ممارسة أشنع الأفعال بهم، من السرقة إلى القتل إلى المتاجرة بمصيرهم، ليصحّ بهم القول انهم ليسوا إلا عبارة عن "مافيا" لن تقود إلا إلى المزيد من الخراب من أجل البقاء في مواقعهم.